وأصبحنا نعيش في سجن مفتوح

قرابة الساعة الثانية من بعد منتصف الليل، كنّا نغطّ في نوم عميق، استحال كل الهدوء إلى ضوضاء مزعجة جداً، والسواد الحالك إلى ألوان كأنها مفرقعات العيد، من شدتها تتفجر بالسماء لتتساقط على أسطح المنازل، وتكسر زجاج النوافذ، وتدخل البيوت دون استئذان أصحابها. يهرع من في المنازل للاختباء في زوايا الغرف، أو الانتقال إلى أمكنة أخرى قد تكون آمنة.
هي حالنا كانت في كل ليلة، منذ تحولت مدينتنا إلى سجن مفتوح، لا تستطيع مغادرته إلّا عبر المرور بعدة نقاط للتفتيش، أنشأتها مجموعات تابعة لجيش النظام عند مداخل المدينة. تمترست فيها، واعتلى قناصوها أعالي الأبنية، فكانوا يطلقون الرصاص في الهواء حيناً، وعلى المارة أحياناً، وحتى القطط والكلاب لم تسلم من وحشيتهم. كانوا يطلقون الرصاص على كل شيء يتحرك، وخصوصاً بعد أن فرضوا حظراً للتجول في الشوارع الفرعية القريبة منهم، حتى أنهم أفرغوا البيوت من أصحابها، واعتقلوا شبابها.
أمّا الليلة فقد اقتحمو الشوارع بدباباتهم. أطلقوا الرصاص عشوائياً، وعلى كل نافذة امتد منها بصيص نور. كانت الأصوات تقترب شيئاً فشيئاً، والجيران يصرخون على كل من يشعل الاضواء بأن يطفئها. مع التنبيه بضرورة الابتعاد عن النوافذ، بل والنزول إلى الطوابق السفلى بهدوء وحذر. ثم اخترقت ذلك السكون أصوات خافتة، ركضت إلى النافذة لأرى في زاوية المنزل المقابل، خمسة رجال مختبئين في ركن شديد العتمة لا تكاد العين المجردة تراهم. وكان في نهاية الشارع 3 دبابات قد استدارت بمدفعيتها نحو مدخل شارعنا. استطعت تمييز هؤلاء الرجال عندما القيت قنبلة ضوئية وأنارت المكان. بدأ إلاق النار من جهة الدبابات التي كانت تسير متقدمة في شارعنا حتى بلغت نهايته. توقفت لدقائق قبل أن تعود أدراجها إلى المركز.
وما إن ابتعدت الدبابات والجنود قليلاً، حتى بدأ رجال الحارة بالخروج والتكلم مع الغرباء والسؤال عن حالهم والاطمئنان عليهم. كان أحدهم قد أصيب بطلق ناري، ولكنها إصابة سطحية. استطاعت إحدى سيدات حارتنا وكانت تلم ببعض أمور الإسعافات الاولية، أن تنظف الجرح وتعقّمه وتضمده. وأعطته بعضا من المضادات الحيوية خوفا من الالتهاب.
سألهم الجيران: ما القصة؟
إجاب أحدهم: نحن عمال نكسب لقمتنا بتحميل أكياس التبن وتنزيلها، كما حال الجميع نعمل ليلاً تجنبا لشدة الحرارة نهاراً في أيام الحصاد. وكنا نعمل في الأراضي القريبة، وبعد ان انتهينا من التحميل أضعنا الطريق. مررنا بشارع لم نكن نعلم بانهم متواجدين فيه. فبدأوا بإطلاق النيران علينا. استطعنا النزول من السيارة والهروب إلى أن وصلنا إلى هنا.
قمنا بإيوائهم، وتقديم الطعام لهم، إلى أن جاء الصباح، وارتدوا ملابس غير ملابسهم، وذهبوا قاصدين ضيعتهم، وهم يضربون أخماساً بأسداس (مثل شعبي للإشارة إلى التوتر والقلق والخوف) على خسارتهم لسيارتهم وحملها، والتي هي المصدر الوحيد لقوتهم وقوت عيالهم.
هكذا هي الحال منذ أشهر وحتى اليوم. ومنذ وطأت أقدامهم مدينتنا لا نعرف الأمان أبداً. نعيش في رعب ليس له مثيل، لا نعلم متى نصبح هدفاً لقناصيهم، ومن أين قد تأتينا رصاصات الغدر. وهل ستكون قاتلة أم ستتسبب بالأذى والشلل. كما فعلت ببعض الأطفال الابرياء الذين تم استهدافهم في عقر دارهم، دون ذنب إلّا أنهم كانوا يمرحون ويلعبون. حتى اللعب أصبح ذنباً يستحق عليه العقاب طفل في سنواته الأولى، بطلقة تستقر في عموده الفقري، فترديه ذبيحاً بين الحياة والموت. تقتل فيه الحيوية والنشاط والمرح. وتقضي على أبسط حق من حقوقه.
هذا ما حلّ بمحمد الذي كان يلعب بدراجته الجديدة. اشتراها له أباه في ذاك اليوم. محمد الإبن الأوسط بين اختين، لرجل يعمل موظفاً في شركة الكهرباء. وأمه تعمل مدرّسة لمادة العلوم صباحاً، وتعمل في خياطة الملابس النسائية في منزلها بعد أن تنهي عملها في المدرسة، وبعد أن تقوم بواجباتها المنزلية كاملة. يكدح الأب والأم ليطعما أطفالهما، ويحسنا تربيتهم. ويؤمّنا لهم أبسط سبل العيش. ويرسما السعادة على أفواه صغارهما. في ظل هذه الظروف القاسية التي لم نكن نعلم لها نهاية.
إيمان محمد في الأربعين من عمرها أم لثلاثة أبناء، تسكن في ريف ادلب، تدير مشروع تدريب مهني وتعليمي خاص بالنساء. عملت ضمن فريق التلقيح ضد شلل الأطفال، إضافة لدورات تطوعية للنساء في الاسعافات الأولية.