لاعلاج في سوريا لأوجاع الجسد والروح

بعد ليلة أمضيتها أصارع الألم وأوجاعاً لا تحتمل، ولم أكن أدري لها  من سبب، كنت أعدّ الدقائق والثواني التي تفصلني عن شروق الشمس وبدء النهار لأقصد الطبيبة لمعرفة السبب، طمعاً بالعلاج.

كان ذلك يوم السبت 12 آذار/مارس 2013.  عند الساعة الثامنة والنصف صباحاً اتصلت بعيادة الطبيبة النسائية التي ازورها عادة. حجزت موعداً في تمام الساعة العاشرة، وهممت بانجاز بعض الواجبات المنزلية من تحضير فطور لزوجي وأولادي، وبعض الاعمال الخفيفة كمسح الغبار ومسح الأرضيات.  عند الساعة التاسعة والنصف قمت بتجهيز نفسي، وخرجت إلى السيارة، وما إن فتحت بابها حتى غرقت الدنيا حولي بالغبار وصوت الصراخ يصمّ الآذان. كان من الصعب فهم ما يحصل من كثرة الأصوات واختلافها. أذكر حينها سأل زوجي أحدهم عمّا يحصل فأجابه بعجل:  “لحّقوا حالكن الجيش صار بنص سراقب”. عندها أصابنا الجمود، لم ندرِ ماذا سنفعل، فيما أصوات الرصاص والقذائف كانت وحدها التي تسمع في كل مكان.

هرعنا الى المنزل. نادينا على الاولاد للنزول الى القبو، خوفاً من القذائف. إنضم إلينا الجيران، وبعض المارة في الطريق الذين لم يحالفهم الحظ في بلوغ منازلهم. كان القبو ملاذنا، طلباً للامان. وكنّا قد جهّزنا القبو بكل ما يلزم ليتحوّل إلى ما يشبه الملجأ المريح، من خط هاتف إلى إمدادات كهربائية ومياه. كان لا بد من هذه التدابير لأننا في منطقة تتعرّض للقصف بشكل مستمر. وبعد ذلك بساعتين إنضم إلينا أحد الأشخاص. أبلغنا أن جيش النظام يحرق ويكّسر ويهدم كل بيت لا يجد أصحابه فيه، وانهم اعتقلوا الكثير من الشباب ممن تتراوح أعمارهم بين 19 و 40 عاماً. قال أنهم أعدمو 9 شبان. لافتاً إلى أن الجنود أصبحوا على بعد شارعين من القبو حيث التجأنا.

خاف الجيران وهرعوا مسرعين إلى منازلهم، على الرغم من كثافة القذائف وضرب الرصاص. وبقينا على هذه الحال حتى غابت الشمس وعمّ الظلام، فسكن الهدوء المكان حتى خيل الي اننا نعيش في مدينة الاشباح. الهدوء قطعه رنين الهاتف الذي أصابنا بالرعب. صوت الرنين فيما كان المكان يغرق بصمت قاتل، بدا وكأنه صوت انفجار.رفعت السماعة، لأجد أختي على الطرف الآخر. كانت تتصل لتخبرني أن اخي الوحيد لم يعد للمنزل حتى الساعة. كان مسافراً إلى حلب لشراء بعض حاجيات المحل من البضائع، عاد قرابة العصر إلى المحل، تكلم مع ابي عبر الهاتف، على أن يصل بعد ربع ساعة. ومضى على ذلك قرابة خمس ساعات. أغلقت السماعة بسرعة وصرت ابحث عن أرقام المشافي. اتصلت ببعض الاصدقاء سألتهم عنه … أخبرني أحدهم أن شابا بمواصفاته أصيب ونقلوه إلى أحد المشافي الميدانية خارج المدينة، وإصابته طفيفة.

حلب حي السكري أم تبحث عن طفلتها المفودة في إحدى المجازر بين الجثث أما أحد المشافي الميدانية. تصوير صلاح الأشقر

هدأت قليلاً، اتصلت بأبي وأخواتي كي أطمئنهم. ولكن قلبي كانت ناره مستعرة، إحساسي يخبرني أن في الامر ما لا يدعو إلى الاطمئنان، فإن كانت إصابته طفيفة فلماذا لم يتصل بنا. وما زاد من قلقي مرور 3 أيام من دون أي اتصال منه أو خبر، حتى عندما سألنا عن المشفى الذي نقل إليه الجريح الذي قيل لنا أنه يملك مواصفات أخي، لم نحصل على جواب شافٍ. في اليوم الثالث على غيابه تلقينا اتصالاً يطلب أحدنا ليذهب إلى المشفى للتعرّف على بعض الجثامين. كان أخي من بينها. لقد تم إعدامه ميدانياً قرب محطة المحروقات في الحي الغربي من المدينة. يومها استشهد قرابة 23  شاباً وتم اعتقال الكثير. وخرّبوا وأحرقوا وسرقوا معظم المنازل التي دخلوا إليها، ولم يكن اهلها متواجدين فيها. دمّروا سوق المدينة الرئيسي، نهبوا المحلات التجارية فيه وخربوا شبكات الكهرباء، حتى أعمدة الكهرباء الاسمنية لم تسلم منهم، هدموها بدباباتهم.

ذهبنا لاستلام جثمان أخي  من المشفى، لم يكن يبعد عنّا سوى مسافة 10 دقائق بالسيارة، ولكنها استغرقت نحو ساعتين من الوقت لنجتازها. الركام الذي خلّفه القصف والمعارك، أغلق معظم الشوارع. ما اضطرنا إلى الخروج من المدينة والالتفاف حولها. دخلنا من المدخل الغربي لنجد أن أبي سبقنا إلى استلام جثة ابنه الوحيد، وذهب به إلى لمنزل. اتصل المشفى بأهلي عندما تأخرنا. لا مكان يتسع في المشفى لكل هذا العدد من الضحايا. لحقنا به، نزلت من السيارة وكنت أسأل: “هل هو اخي حقاً؟” كنت انظر مباشرة بعيني ابن عمّتي الذي كان حاضراً، علّي اجد بهما نفياً لسؤالي. أشاح بوجهه مطأطأ الرأس. ذهب بدون اجابة. دخلت إلى المنزل، وعندما وصلت إلى الفراش الذي وضعوه فوقه، أمسكت بيده الباردة، رغم حرارة الطقس الشديدة. وضعت رأسي على صدره، علّي أسمع بعضاً من دقّات قلبه التي تعطيني أملاً بأنه حي. شعرت بمادة لزجة، كانت تحت كفّ يدي، مرّت عليها أصابعي. نظرت أعاينها كانت حمراء نقية. كانت دماء أخي التي تسيل من جراحه التي أصيب بها جراء إطلاق الرصاص عليه. خمس رصاصات استقرّت إحداها أسفل رقبته. في المشفى كانوا على عجل، لم ينظفوا الجروح تماماً. ومن المعروف أن الشهيد لا يتم غسله. الشهيد يتم دفنه كما هو. ربما لكثرة الضحايا ولكثرة الدماء ولكثرة من رحلوا، لم يعد حال من يرحل يغيّر في الواقع شيئاً.

لملمت احزاني وجلست على مقربة منه. أسندت ظهري إلى الحائط لعلّي استمد منه قليلاً من قوّتي التي خسرتها بفقدان أخي. كنت أريد أن أريح جسدي المنهك من المرض الذي ألمّ بي وتركته دونما علاج.

إيمان محمد في الأربعين من عمرها أم لثلاثة أبناء، تسكن في ريف ادلب، تدير مشروع تدريب مهني وتعليمي خاص بالنساء. عملت ضمن فريق التلقيح ضد شلل الأطفال، إضافة لدورات تطوعية للنساء في الاسعافات الأولية.