جرح قلبها لن يندمل
أجبرتها جرائم النظام على تجرّع مرارة الإعاقة وفقدان الولد في يوم واحد، لتعيش أصعب مرحلة في حياتها كلها. لكنها استطاعت بمساعدة أسرتها ومحبة أبنائها لها أن تقف على قدميها من جديد. إنها أسماء العاهي (33عاماً) من مدينة معرة النعمان.
تروي أسماء معاناتها قائلة: “كنت أعيش مع زوجي وأولادي الأربعة حياة سعيدة، رغم كل مايمر بنا يومياً من صعوبات وهموم الحرب. كنت أحمد الله دائماً لأن أسرتي بخير وبصحة وعافية، إلى أن جاء ذلك اليوم الواقع بتاريخ 5 آذار/مارس 2014، وهو تاريخ لا يمكن أن أنساه ما حييت، لأنه كان نقطة انطلاق رحلة عذابي في هذه الحياة”.
تتابع أسماء رواية قصتها وقد بدأت بوادر الحزن الشديد تطفو أكثر فأكثر في عينيها وتظهر بحركات يديها، وتضيف أسماء بعد تنهيدو عميقة: “استيقظت مبكرة كعادتي لأودّع زوجي الذي يذهب إلى عمله، وأولادي الثلاثة، فاطمة ومرح وخليل، الذين يذهبون إلى مدرستهم ونبقى أنا وصغيري هيثم الذي يبلغ من العمر ثلاث سنوات في المنزل. فجأة سمعت صوت الطائرة الحربية تصدر دوياً كالرعد، تلاه انهيار سقف المنزل فوقنا. وكأنه كابوس مرعب عندما رأيت ولدي الصغير وهو يموت أمام عيني”.
أرادت أسماء أن تكمل لكن الدموع التي انهمرت من عينيها قطعت كلامها. وبصعوبة شديدة أكملت مشيرة إلى أنها أرادت أن ترفع الأنقاض عن ولدها، متناسية ألم قدمها التي تهشمت أيضاً لكنها فقدت وعيها من شدة الألم قبل أن تتمكن من إنقاذه. وعندما استيقظت من غيبوبتها في المساء وجدت نفسها في المشفى، وعلمت بأنها خسرت ولدها وقدرتها على المسير. اضطر الأطباء إلى بتر قدمها لأنها تأذت كثيراً. تكمل أسماء: “خرجت بعد عدة أيام من المشفى على كرسي متحرك وكان أولادي في المنزل بانتظار أمهم التي اعتادوا على رعايتها لهم وحنانها عليهم. فإذا بي بحاجة لمن يرعاني، ويمنحني العزاء والسلوى فلقد أصبحت مكتئبة وصامتة في أغلب الأوقات. لا أريد الكلام حتى مع الأولاد فقد شعرت بأن حياتي قد انتهت، ولم يعد أي شيء في هذا العالم يستطيع إدخال الفرح إلى قلبي”.
كانت أسماء تستخدم عكازين أصبحا وسيلتها الوحيدة في التنقل والحركة، ولكن الزوج والأولاد كانوا يحاولون ألا يشعروا أسماء بعجزها بل يراعون مشاعرها المرهفة و يتعاونون لخدمتها والقيام بأعمال المنزل دون تذمر أو ملل. أما والدة أسماء فقد وقفت إلى جانبها في محنتها وكانت تتألم كثيراً من أجل ابنتها والحالة الصعبة التي آلت إليها.
تقول والدة أسماء: “لقد كانت ابنتي مفعمة بالحيوية تنشر المرح في كل مكان تتواجد فيه. ولكن فاجعتها بابنها وإعاقتها التي سلبت منها الحياة وليس الحركة فقط كانت كبيرة. تبدلت حياتها وانقلبت رأساً على عقب وأصبحت منطوية على نفسها لا تكلم أحداً ولا تغادر المنزل أبداً. فهي تخشى نظرات الشفقة والعطف في عيون الناس. وأكثر ما آلمها هو افتقاد طفلها الأصغر الذي أحبته كثيراً وترك غيابه حزناً كبيراً في قلبها. ولكنني كنت أذكرها دائماً بمن حالتهم أسوأ من حالتها وبأن الحياة يجب أن تستمر مهما صعبت وضاقت على الإنسان”.
وبعد سنة تقريباً من إصابتها و أمام إصرار أفراد العائلة ذهبت أسماء بصحبة زوجها إلى مركز لتركيب الأطراف الصناعية، وبعد فحص الأطباء لها تفاجأت بأن ساقها تحتاج إلى عملية بتر ثانية حتى تتمكن من تركيب الساق،عادت أسماء بعدها إلى المنزل منهارة تماماً لتقع تحت رحمة الاضطرابات النفسية والحزن مرة أخرى. حيث رفضت الفكرة تماماً فهي غير مستعدة لعمليات وآلام جديدة.
تقول أسماء: “أكثر ما آلمني هو حاجة أولادي لي وتقصيري نحوهم لأنني عاجزة عن القيام بأشياء كثيرة. واستعرضت في ذاكرتي حياتهم التي انقلبت من الفرح والسعادة إلى الهموم والأحزان. لذلك قررت أن أتحدى واقعي المؤلم وأخفي حزني داخل قلبي لأعيد البهجة والفرح إلى حياة أولادي من جديد “. تحلّت أسماء بالشجاعة و خضعت للعملية الجراحية الثانية بتاريخ 19 أيلول/سبتمبر 2015. وبعد أن تماثلت للشفاء عادت إلى مركز تركيب الأطراف، وبعد عناء كبير وعدة جلسات تدريب استطاعت أن تتأقلم مع ساقها الجديدة نوعاً ما.
أرادت أسماء أن تفاجئ أولادها لذلك وقفت مع زوجها أمام باب المدرسة بانتظارهم. بكى الأولاد فرحاً عندما شاهدوا أمهم تقف على قدميها من جديد.غمرتهم بحنانها ووعدتهم أن تعود أفضل حالاً من السابق وتعوضهم عن كل ما فاتهم.
تختم أسماء حديثها بالقول: “لقد استطعت بعزيمة أن أتحدى إعاقتي وربما اندمل الجرح الذي في جسدي، لكن جرح قلبي الذي خلفه موت فلذة كبدي هيثم الصغير لن يندمل حتى مع مرور السنين”.
سونيا العلي (33 عاماً)، من معرّة النعمان، متزوجة أم لأربعة أبناء، تحمل إجازة جامعية في مادة الأدب العربي تعمل كمدرّسة.
بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي