للحرب جوانب مشرقة
للحرب جوانب مشرقة أيضاً لا بد أن نذكرها. من إحدى تلك الجوانب قصة ابنتي الكبرى فاطمة التي تبلغ من العمر 32 عاماً. عندما كانت طالبة في المرحلة الإعدادية قررت أن تترك الدراسة. حاولت معها بشتّى الوسائل ولكنها لم تقتنع، وفعلا غادرت المدرسة ولم تكن قد حصلت على الشهادة الإعدادية. وهذا ما كان يحزنني بشدة، فبقية أولادي تابعوا دراستهم. إلّا فاطمة التي تركت مدرستها، ومن ثم تزوجت و أنجبت ولدين.
كنت أحاول معها أن تعود للدراسة و لكن دون جدوى، وهكذا حتى تغيرت الأوضاع في سوريا، وساءت الحياة المعيشية. واضطرت المرأة للعمل لتساعد عائلتها، وخاصة مع بداية الحصار على الغوطة الشرقية. جاءت ابنتي إلي تخبرني أنها تريد أن تبحث عن عمل لتساعد زوجها وتعيل عائلتها، و لكن للأسف لم تجد، و ذلك أنها لا تمتلك شهادة علمية تؤهلها القيام بأي وظيفة في الغوطة حتى ولو كانت براتب قليل. و بعد فترة يئست من أن تجد عملاً، فأقنعتها بأن تعود للدراسة، وعدتها بأنني سأساعدها وأعمل جهدي لأوفر لها متطلباتها.
طرحنا الفكرة على العائلة، فرحب الجميع بالفكرة حتى أولاد ابنتي الصغار، بدأوا بمنافسة أمهم في الدراسة. كان ذلك في العام الدراسي 2013-2014، والحمد لله نجحت وكان مجموعها لابأس به. في بداية هذا العام الدراسي 2014-2015 ، قدمت أوراقها للحصول على الشهادة الثانوية، وكل العائلة أمل بأن تنجح هذا العام كما نجحت العام الماضي. و لكن مع بداية السنة ازدادت الصعوبات بشكل كبير جداً عن العام الذي سبق. أول مشكلة واجهتها هي تأمين الكتب، حيث أنه لا يوجد كتب في الغوطة. النظام الظالم الذي حارب أهالي الغوطة بكل شيء منع إدخال الكتب المدرسية. بدأت ابنتي فاطمة تنقل محتويات الكتب على دفاترها. ساعدتها أنا وزوجها وأخواتها في ذلك، حتى أننا أثناء أمسياتنا في المنزل كان كل فرد منا مسؤول عن نقل عدد من الدروس لفاطمة. كانت العائلة كلها تقدم امتحان الشهادة الثانوية. كنا نضحك حول هذه المسألة ونتبادل النكات حولها بين أفراد العائلة، ما يزيد من محبة الأفراد لبعضهم البعض.
مع مرور الوقت ازدادت الظروف صعوبة، بداية كانت مع حلول فصل الشتاء وهبوب العاصفة الثلجية (هدى) على سوريا. أدت إلى تعطيل المدارس في الغوطة المنكوبة، لأنه لا تتوفر لدينا إمكانيات لإشعال المدافئ في المدارس. فكان الحل الأنسب هو عطلة استمرت لمدة أسبوعين كاملين، أدت إلى تأخير العملية الدراسية. وبعد انقضاء العاصفة عاد التدريس إلى سابق عهده حتى 5 شباط/فبراير 2015، حين شن نظام الأسد المجرم حملة شعواء على مدينة دوما. وقام النظام بقصفها بشتى أنواع الأسلحة ما أسفر عن سقوط ما يزيد على مئة 100 شهيد ومئات الجرحى وعدد كبير من المنازل المدمرة، حتى مدرسة فاطمة لحق بها الضرر. بعدها توقفت العملية التعليمية وخاصة أن النظام في حملته تلك استهدف عدداً كبيراً من المدارس، واستشهد أيضاً عدد من الطلاب. مع توقف تلك الحملة بشكل مؤقت، وعلى الرغم من الدمار الكبير، عاد الطلاب إلى مدارسهم فوق الركام. تابعوا دراستهم مع أن الأمور كانت تشير إلى توقف المدارس في أي لحظة، و لكن يبقى حب العلم والتمسك بالمعرفة، لأنها سبيل النجاة الوحيد لهؤلاء الطلاب من هذه الحرب الشعواء. حدثت اضطرابات بين الفصائل العسكرية المسلحة المتواجدة في المدينة، أدت إلى توقف المدارس ومن ثم العودة لها.
اشتد حصار الجوع علينا. ارتفعت الأسعار بشكل كبير وحدثت حالات عديدة من الإغماء و سوء التغذية بين الطلاب، حتى ابنتي فاطمة فقدت جزءًا كبيراً من وزنها. ولكن ليس بيدنا أي حل لنقوم به. مع العلم أن النظام ي لم يوقف حملاته الأمنية على الغوطة الشرقية، وارتكب عدداً من المجازر.
حان موعد الامتحان، جاءت ابنتي فاطمة وحدثتني بأنها خائفة، ولا تريد أن تقدم الامتحان. تذرّعت بالظروف القاهرة التي مررنا بها، ولكنني رفضت ذلك و أقنعتها بضرورة تقديم الامتحان.
وذهبت فاطمة إلى مركز الامتحانات التي تشرف عليها مديرية التربية في الغوطة الشرقية التابعة للحكومة المؤقتة. كان الخوف يتملّكنا جميعاً، فكل من في الغوطة خائف من أن يرتكب الأسد مجزرة مع بداية الامتحان، خاصة وأن الطائرة بدأت جولاتها الاستعراضية في السماء. في الساعة التاسعة تماماً ألقت صاروخين بالقرب من مدرسة ابنتي فاطمة. سقط الصاروخان على مسافة لا تبعد سوى 200 متر عن المدرسة. لا أعتقد أن هناك أي طالب بالعالم يمكنه أن يتابع امتحانه والصواريخ تتساقط فوق رأسه. ولكن في الغوطة سر لا أعلم ما هو واستمر الامتحان.
كنا بانتظار نتائج الثانوية العامة بحسب منهج الحكومة المؤقتة بتاريخ 20 تموز/يوليو 2015. صدرت النتائج الثانوية وذهبت مع أولادي إلى مقهى الانترنت لنرى نتيجة ابنتي من على موقع الحكومة. في تلك اللحظات شعرت أن قلبي كاد أن يتوقف، والحمد لله نجحت فاطمة. صرخت داخل المقهى، لم أتمالك نفسي من الفرحة. عانقت ابنتي و بكيت فرحاً بنجاحها، وارتسمت ابتسامة على ثغر كل فرد في العائلة. الجميع ساهم بعودة فاطمة إلى الدراسة ونجاحها. كان نجاح الجميع. لكم أتمنى أن أنقل تجربة ابنتي مع عودتها للدراسة لجميع الفتيات في العالم ليدركن أهمية التعليم في حياتهن ولا ينتظرن الظروف لتعيدهن إلى مقاعد العلم و المعرفة.
عبيدة الدومية (51 عاماً)، تعمل في الحياكة والتطريز، أم لأربعة أولاد في المرحلة الجامعية. أم لشاب معتقل منذ أكثر من سنتين وشابة اعتقلت وتم إطلاق سراحها. قُتِل أخوها وعدد من أبناء إخوتها.