يوم وداع مروة
A woman and her children crossing the street in front of the remains of the al-Shaar bridge. Photo by: Hussam Kuwaifatiyeh
بعدما عمّت الثورة البلاد، زاد ظلمُ النظام للناس وزاد بطشه وجبروته… وكانت المعاناة .
أختي مروة، زوجة شرطي منشق عن النظام. فبعد المظاهرات السلمية، وبحكم عمله كشرطي، قرَّرَ الإنشقاق لأنه لا يريد أن يؤذي أحداً.
كانت مروة تسكن في منزل جميل في مدينة حلب، كانت سعيدة به. لكن بعد انشقاق زوجها، بدأت معاناتها.
بدايةً، كان على أختي الخروج من مدينة حلب دون أن تحمل معها أي شيء أو أن تبيعه، حتّى لا يشك النظام بأنَّ زوجها يريد الإنشقاق… والحواجز كانت تملأ جميع أرجاء سوريا!
الحمدُ لله استطاعت الوصول إلى مدينتها كفرنبل مع عائلتها. لكن هنا بدأت المعاناة… عند وصول أختي المدينة، لم يكن لديها مكاناً تقيم فيه، وأيضاً لم تستطع إحضار أي شيء من أثاث المنزل معها، ولم يكن لديها معين إلّا الله.
أقامت معنا في بيت أهلي الصغير، الذي بالكاد يتسع لنا ولإخوتي الذين يقطنون مع أهلي في بيت واحد مع عائلاتهم! اضطرت أن تبحث عن غرفة للإيجار، لكنها لم تجد إلّا غرفة صغيرة وسط المدينة… غرفة بلا أثاث أو حتى حصير تضعها فيها. شيء حزَّ في نفوسنا كثيراً!
كانت مروة تتألم وتعاني. ثم تبرَّعَ أهل الخير ببعض الفرش الإسفنجية والأغطية القديمة، وببعض الأواني للمطبخ. وكانت تقول دائماً: “الحمد لله على كل حال”.
لدى أختي عائلة كبيرة مؤلفة من ثلاث بنات وولدين، وكانت حاملاً بالولد السادس. وكانت دائمة الذهاب والإياب من غرفتها الصغيرة إلى منزل أهلها الذي كان يضيق بساكنيه. تعاني كثيراً من الفقر والحاجة، فزوجها بعد أن قدم إلى البلدة لم يجد عملاً لإعالة أسرته الكبيرة.
كل هذا قبل أن تتحرر مدينة كفرنبل من حواجز النظام. لكن بعد مرور حوالي السنة، قامَ الثوار بتحرير المدينة من حواجز النظام كافة. ودارت معركة شرسة بين الثوار وقوات النظام في آب/أغسطس 2012، على أثرها خرج جيش النظام من المدينة.
قبل ذلك كان على جميع سكان المدينة النزوح إلى القرى والبلدات المجاورة. فنزحت أختي وعائلتها إلى قرية مجاورة، ومكثوا فيها قرابة الخمسة أيام. إلى حين مجيء الخبر السعيد وهو تحرير المدينة بالكامل.
فرحَ جميع السكان بالخبر، وكنا نظن أن هذا التحرير هو نهاية لمعاناتنا. عُدنا إلى كفرنبل، إلّا أن المعاناة قد ازدادت سوءاً! بدأ قصف النظام للمدينة بعد قرابة العشرة أيام، لتبدأ المعاناة من جديد.
أصبح طيران النظام يقصف المدينة بشكل مستمر، وخصوصاً وسطها، حيثُ تسكن أختي.
كان زوج أختي كثير الخوف من قصف الطائرات والقذائف، ودائم التنقل هرباً من القصف. يأخذ عائلته نهاراً إلى البساتين، ثم يعود بهم ليلاً إلى المنزل، وكان يقول: “هكذا نكون في مأمن من القصف”.
تعبت أختي من هذا الترحال المستمر، وخصوصاً أنها كانت في الأشهر الأخيرة من الحمل. وزوجها لا يمتلك وسيلة للتنقل، فكان نزوحهم إلى البساتين نهاراً وعودتهم ليلاً، مشياً على الأقدام.
رغم كل ذلك، لم يستطع زوجها التحمل كثيراً، فأراد ترك الغرفة نهائياً لأنها وسط المدينة. رفضت أختي الأمر، ثم طاوعته. لأنه لشدّة خوفه من قصف الطائرات، أُصيب بنوبة قلبية نُقل على أثرها إلى المستشفى.
عمِّي الذي كان منزله على أطراف البلدة، رثى لحال مروة، فعرض عليها السكن مع عائلته في منزله. ذهبت مروة بصحبة عائلتها إلى منزل عمي، وكان زوجها ما يزال مريضاً وبحاجة لعناية. منزل عمي كان فيه قبو صغير، فوجده زوج أختي الملاذ الآمن له من قصف الطائرات والقذائف المتواصلة. وكان دائم المكوث فيه، لا يخرج منه إلّا نادراً.
وضعت أختي طفلها السادس، وكانت ما تزال تقطن في منزل عمي.
وبفضل من الله تماثلَ زوجها للشفاء. ولكن للأسف كان خوفه من الطائرات يزداد يوماً بعد يوم، ولم يستطع البقاء في سوريا أبداً، فقرَّرَ النزوح إلى مخيمات تركيا…
قبيل عيد الأضحى ببضعة أيام، كان موعد سفرهم إلى تركيا، حيث الأمان على حسب قول زوج أختي.
ما زلتُ أذكرُ جيداً، ذلك اليوم الذي أتت فيه أختي لوداع أهلي. صورتها مرسومة في مخيلتي إلى الآن، وكان ذلك في السابع من تشرين الثاني/نوفمبر 2012.
ودَّعت مروة أمها الحنون، بوجهها الشاحب والدموع تنهمر من عينيها. أمّا أبي العطوف، ذو اللحية البيضاء، سقطت من عينيه دمعتان أحرقتا قلبي. فهذه المرة الأولى التي أرى فيها دموعه، ثم قال لأختي: “حفظكِ الله يا ابنتي”.
قالت مروة والدموع تسيل من عينيها: “أودِّعكم يا إخوتي وأخواتي… إن شاء الله سنلتقي وسورية حرّة من هذا النظام المجرم”.
بكت بأعلى صوتها، وأنا لم أتمالك نفسي. حاول إخوتي حبسَ دموعِهم، لكن لم يتمكنوا من حبس غصّة الكلام، في وداعهم لأختنا الغالية.
خولة المحمد (40 عاماً) كانت تعمل كمدرّسة قبل الثورة وهي حاليا تعمل في راديو فرش في كفرنبل حيث تعيش مع والدها في منزل صغير.