يوم هتف الطلاب بالحرية في دمشق

كنت يومها ما زلت أفكّر بإعطاء فرصة لبشار الأسد (الرئيس السوري) ليقوم بتهدئة الأوضاع، وإصلاح ما تم هدمه من عهود ثقة، وما تم ارتكابه من جرائم قتل غير مبرر، وتعذيب لا يستحقه معذَّبوه. لا يزال تاريخ ذاك النهار محفوراً في ذاكرتي كان نهار الإثنين في 11 نيسان/أبريل 2011.

كم بعيدٌ هو هذا التاريخ، وكم هو قريبٌ لمخيلتي إذ كأنه اليوم بتفاصيله. كنت في كلية العلوم كما عادتي أتابع محاضراتي بصمت. أصوات الهمهمة تقضّ مضجع تركيزي فأحاول جاهدةً ألا أسمعهم:
– تابعتِ ما حدث في درعا؟
– نعم ومنذ بضعة أيام قضى 8 شبان في دوما
– الله يرحمهم ويتقبلهم … شهداء

لأول مرة كنت أسمع تلك الكلمة فيقشعرّ لها بدني. لأول مرة أعي معنى تلك الكلمة بعيداً عن الشهداء الذين يتكلم عنهم حافظ الأسد وابنه (الرئيس السوري السابق وابنه الرئيس الحالي بشار الأسد) في كتاب القومية الذي صدّعوا رؤوسنا بحفظه.
كلمة شهيد جعلتني أرتعش. التفتّ بحدّة طالبةً منهم الهدوء كي أستمع للمحاضرة. تغامزوا عليّ ظنّاً منهم أنّني مؤيدة لأفعال النظام غير آبهةٍ للحقّ. تجاهلت كل ذلك وتابعت محاضرتي ثم خرجت إلى ساحة الجامعة.

بعد دقائق كنت شاردةً فيها واجمةً أفكر في الوضع الراهن لبلادي. رأيت العشرات من الشبان بملابس بيضاء يقفون صفاً واحداً، اعتصموا أمام المبنى، وبدأوا يرددون عباراتٍ تحيي في الروح قلباً طال سباته. التفّ حولهم العشرات من الطلاب، وبدأوا بالهتاف معهم.

كان شيئاُ غريباً أتابعه عن قرب و كثب. لم تكن أفكاري تسمح لي بالمشاركة معهم بعد. ظللت واقفةً أتابع ما أصرّ على أنه حقّ مشروعٌ لهم دون شك. خلال دقائق ظننت أن صوتهم بلغ عنان السماء، وأن إدارة الجامعة واتحاد طلبتها لن يعترضوا سير هكذا اعتصام سلميّ لا عنف في إبداء مطالبه.

من الاحتفالية السنوية لانطلاق الثورة السورية في حي البستان في حلب. تصوير صلاح الأشقر

وبدأوا بهتاف “الله سوريا حرية وبس”. لم أجد منكراً في قولهم. فالحرية حسب معتقداتي حق مشروع. ولكل إنسان أن يعبّر عما يواجهه بحرية، إذا كان ذلك ضمن الحدود وألا يتعدى بذلك على حرية الآخرين.
رددوا بعدها عدة هتافاتٍ كنت سعيدةً لوعي شبابنا بها: “الموت ولا المذلة”، “فكوا الحصار عن درعا”، “بالروح بالدم نفديك يا درعا”، “من القامشلي لحوران الشعب السوري ما بينهان”. هتافات أشعلت بي روح الثورة والإرادة دون أن أعي أي ثورة وعلى أي شيء سأثور.
الهتاف الأخير حرّك شيئاً غريباً على أرض الحرم الجامعي. ما إن استدرت حتى رأيت شباب اتحاد الطلبة يهجمون بالعصي والبعض بأحزمتهم وينهالون بالضرب على المعتصمين. صدمتي بتلك اللحظة حطمت كل الأفكار في رأسي. وبدأت بالصراخ: لا تضربوهم، لا تضربوهم. حاولت المساعدة لكن المفاجأة كانت أكبر من أن أستوعب ما عليّ فعله. يداي شُلّتا عن العمل.
قدماي كانتا تمشيان نحو الإعصار. أصرخ فقط دون أن أستطيع ضرب من يضرب الشبان وإبعادهم عنهم. لم أكن أشعر بدموعي تُذرف. كان كل همي ألا يتأذى أحد. كانت الشعارات رغم الضرب تتردد من كل مكان. و ازداد الهتاف “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”.

سيطر اللون الأحمر على عينيّ فبتّ أميزه في كل مكان. المراييل البيضاء أصبحت حمراء. كنت أوقن أنني فتاةٌ لن تقدر على مجابهة ثيرانٍ يهجمون بلا وعي ولا إدراك. لكنني ومع ذلك لم أنسحب. وقف أحد الشبان المعتصمين على سيارة محاولاً إنهاء اعتصام لم يبدأوه ليُضربوا ولا أن يهينوا به سيادته آنذاك. فتم سحبه وسحله أرضاً وضربه بالعصي والهراوات والأقدام.

هرجٌ و مرجٌ ملأ أرجاء الكلية. طلاب امتدت رؤوسهم من النوافذ المطلة على الحرم. عويلٌ وصراخٌ من كل صوب. وأنا في منتصف الدوامة أتمنى لو أنني أحلم فأستفيق لينتهي كل شيء. لم أُضرب ولم أَضرب. كنت أرصد كل ما يحدث حولي كمن يريد الاحتفاظ بكل التفاصيل لتسجيلها، طالما أني لم أستطع التحرك لفعل شيء.

سياراتٌ عدّة تقدمت نحو مركز قتال الشوارع الذي كان يحصل. تمت تعبئة الجموع في السيارات. وكذلك ذاك الشاب الذي أُخرج من غرفة الحارس بعد ضربه حتى أغمي عليه. أغلقوا أبواب السيارات التي انطلقت نحو الجحيم . لم تنتهِ المهزلة هنا. مع إقلاع السيارات بمن تم توقيفهم من الشبان المعتصمين إلى ما وراء الشمس. دخلت أفواجٌ غفيرة من الباب الكبير للكليّة. ملامحهم غريبة، وأشكالهم أغرب. لم أر وجهاً مألوفاً بينهم، يحملون لافتات و أعلام. يهتفون، نعم يهتفون. هل هو اعتصامٌ آخر؟ ردّدت في سرّي . أصغيت مليّاً، فإذا هم يقلبون الاعتصام إلى مسيرةٍ تأييدية. يهتفون بها بروح بشار الأسد و فدائهم له. شعرت بمعدتي تتقلص، واحتجت أن أفرغ كل ما بها بوجوههم. يومها وقفتُ وجهاً لوجه أمام ما يحصل في بلدي، ولو أني لم أكن في درعا لأشاهد أحداثها إلّا أنني رأيت ما يفعله النظام السوري والأمن التابع له في بلادنا. حولوها إلى حظيرة يظنون أنهم يمتلكونها بل ويعيثون فيها فساداً مطلقاً .

ياسمين الشامية (25 عاماً) خريجة جامعة دمشق، تقيم حالياً في غازي عنتاب في تركيا.