يوم سألني حاجز النظام: إنتِ مع مين نصرة أو داعش ؟
يشكل الباص الصغير الذي يقلّني أنا وزميلاتي المعلمات مجتمعاً صغيراً يضم المؤيدات للنظام والمعارضات والحياديات خوفاً من الجميع، وهذا يفرض حذراً في الحديث الذي يقتصرعلى شؤون المطبخ فهوالنقاش الأقل تطرقاً للسياسة. نمرّ في طريقنا للخروج من إدلب بثلاثة حواجز للنظام ومثلها للثوار حيث لايبعد اخر حاجز للنظام عن اول حاجز للثوار سوى ٢ كيلومتر..
في رحلتي هذه عادة ما التزم الصمت خلال الحوار مع عناصرحواجز النظام. فوجود عدد من الإناث يفتح شهية الجنود لاختراع الأسئلة “بطعمة و بلا طعمة”. وذلك برغم كل ما يتاح لهم من طرق لتفريغ هذه الشحنة بعدما أصبح منظرالعساكر والشبيحة بصحبة الفتيات ماألوفا في كل مكان. وانتشرت قصصهم ومغامراتهم الجنسية لتتخطى حدود المدينة إلى المناطق المحررة. الأمر الذي أثار غضب ونقمة الثوار على كل من يسكن في المدينة وبالأخص النساء، وأعقب ذلك ظهور فتاوى عدة من شرعيي الفصائل المختلفة بتكفير أهل إدلب أو اعتبارها أرض كفر.
كنت وخلال رحلات الباص قد اعتدت على حمل مسبحة رقمية في إصبعي لاستغلال الطريق في الذكر والاستغفار، وهي عبارة عن قطعة صغيرة من البلاستيك لها شاشة تظهرعدد التسبيحات وزرين للعد تلبس في الإصبع .
في إحدى المرات وفي طريق العودة من المدرسة إلى البيت توقفنا على حاجزالنظام المعروف بـ “الكونسروة” وكانت أعداد السيارات التي تقف أمامنا كبيرة والطابور طويل. وعادة ما يتجمع معظم عناصر الحاجز في بدايته للتفتيش، وينتشرالقليل منهم بين السيارات لتنظيم الدور. كنا نتحدث أنا وزميلاتي في السيارة وكنت أجلس في الصف الأمامي خلف السائق بجانب الباب مباشرة. كنت مشغولة بالحديث وأستند بظهري على النافذة، وفجأة سمعت صوت الباب يفتح، فإذا بأحد عناصرالحاجز يتقدم نحو سيارتنا ويفتح الباب، وعلى ما يبدو كان يراقبنا من بعيد ونحن داخل السيارة. كان شابا في العشرينات من العمر، متوسط القامة عريض الكتفين له لحية خفيفة و ملامحه جذابة.
فتح الباب ونظر إلي قائلا: شو كلكن معلمات؟ (بلهجته العلوية طبعا).
فأجابته صديقتي المقرّبة التي كانت تجلس بجانبي وهي تكبرني بالعمر بسنوات عدة وهي سيدة ومتزوجة ولديها أبناء: نعم الكل معلمات.
عاود سؤالي: وين بتدرّسوا بأي مدرسة؟
حاولت صديقتي إجابته: مندرّس بـ
لكنه قاطعها قبل أن تكمل موجها السؤال إلي، وقد ازعجه أنه يسألني فتجيب صديقتي: من وين إنتو؟ وانتي من وين يا انسة؟
أجبته: من إدلب كلياتنا.
تابع: بتخافي من الرصاص انتي؟
أجبته: لا.
دخل وبندقيته معه إلى الباص واقترب قليلا مني وقال: رح اضربلك رصاص الك.
هنا أحسست ببعض التوتر ينتابني، وقد كانت الأنظار كلها تتجه نحوي من زميلاتي ومن السائق لكنني ضبطت أعصابي لأوحي له أنني غير مهتمة أو متوترة وعندما رآني هكذا سحب بندقيته وابتسم لي وقال: عم امزح معك.
لم اجبه بشئ. أغلق الباب وابتعد قليلا عن السيارة وبدأت تعليقات زميلاتي “شوحط عينو عليكي” و “انتبهي” و”عطيه كلمة أو تطليعه خلي يمشينا”. لم أتمكّن من إجابتهن فقد عاد مجددا وفتح الباب وهو يبتسم لي ليقول: شوهي يلي بإصبعتك؟ أجبته: مسبحة
سأل: شو هالمسبحة؟
أجبته: مسبحة رقمية.
شو يعني رقمية؟ شوفي هيك المسابح اطلعي. وأخرج من جيبه مسبحة ملونة حباتها مصفوفة على شكل علم النظام ذو النجمتين. وطبعا لم أعقب على كلامه…
عاد وسألني:انتي مع مين؟
فنظرت فيه مستغربة لإيهامه أنني لم افهم ماقصده، طبعا ظننت انه سيسألني هل انا مع النظام أم ضده ، فتابع شارحا سؤاله قائلا: بالذمة بالضميروعليكي الأمان بس قوليلي انت مع مين مع جبهة النصرة ولامع داعش؟
لم اجبه وابتسمت من صدمتي من سؤاله فقد جزم بمفرده انني معارضة وضد النظام. وبدأ يقفز كالمجنون ويلح علي بالاجابة وهويقول: ولك يلعن ابويي اذا بقول لحدا شو رح تحكي قوليلي بس مشان الله بس احكي .
بدأت أحدث نفسي وعشرات الأفكار تدور في رأسي “لماذا يصرّعلي كل هذا الاصرار، ماذا سيحدث إن أخبرته بأنني لست مع داعش مطلقاً، ولست مع كل تصرفات النصرة، لكني مع أحرار الشام بقلبي، لان قلبي وروحي يقاتل معهم لكنهم ذئاب لايؤمن جانبهم، هل يجب أن أسكت؟ لكنني كلما امتنعت عن الحديث معه ازداد إصرارًا على سؤالي وها قد أوقفنا ما يقارب الساعة من أجل أن يتحدث معي أكثر وماذا يريد مني؟ هل هو مجرد إعجاب أم أن في نيته شئ آخر. كنت أرى الخوف في عيون من حولي من صديقاتي. حتى السائق بدا قلقاً من أسئلته. هل استعمل أسلوب أغلب الناس لكي أتملص منه فأخبره اني مع الجيش السوري وقيادته، وطبعا هذا مستحيل حتى لوكان كذباً فلا أستطيع قوله وهل مثلي يكون هكذا ويقول هذا!!
قطع صوته هذه الأفكار في رأسي وهويقول لمن معي: مو ممكن تعدوا لحتى تجاوبني الانسة.
أشار السائق لي بيده عبر المرآة بحركة خفيفة لجلب انتباهي نحوه دون أن يشعر به العسكري، فنظرت إليه فأشار إلي ان بسبابته نحو الأعلى وشفتاه تتمتمان بكلمة “مع الله”، وفهمت انه يقصد أن أجيب العسكري باني مع الله. وفعلا استجبت مباشرة وجاوبت العسكري: أنا مو مع هدول ولا هدول أنا مع الله.
نظر إلي مبتسما وقد أعجبه الجواب وقال: ماشي هربتي من الجواب وبس قلتي الله شومنقدر نقول بقا! طيب قلك سر وما تخبري لحدا؟
وطبعا لم ينتظر مني أن أجيبه، اقترب قليلا مني همس: أنا مع داعش وغمزني بعينه غمزة لها اكثرمن معنى.
فقاطعه السائق قائلا:هي جاوبتك الآنسة خلينا نعدي تأخرنا كتير.
أجابه العسكري وهو ينظر الي: لشو مستعجل والله مستأنسين ومابينشبع منكن.
هنا امتلكني حقا الخوف، قبضت صديقتي على يدي خوفا من إجابته ومن نواياه، ثم طلب منا الهويات، ولم ييرفع نظره عني، فأعطاه السائق الهويات جميعها حيث أننا بمجرد اقترابنا من حواجز النظام يقوم السائق بجمع الهويات لإعطائها للحواجز في حال طلبوها منا. جمع الهويات وقال: شوي ورجعان ماتتحركن من عندكن والامام علي بقوسك براسك (مخاطبا السائق) وهو يضحك.
همست في اذن صديقتي بجانبي: شو اعمل؟ انا مو مطمنة زادها كتير.
أجابتني مواسة: بسيطة ان شالله خير الله يخلصنا من ولاد الحرام على اهون سبب.
عاد ومعه الهويات وبدأ بتوزيعها علينا ينادي الإسم ويسلم الهوية لصاحبتها، وطبعا ترك هويتي للنهاية قرأ إسمي ونظرإلي وابتسم وقال:عاشت الاسامي يا آنسة………
ثم أعطاني الهوية واقترب مني قائلا: أنا اسمي محمد وحظي حلو اني تعرفت عليكي اليوم.
ونظرالى من معي في السيارة وقال: كرمال عيون الانسة …. وقفناكن وإذا بتقلي مشينا بمشيكن.
حشرني بقوله في خانة اليك ماذا عساي أقول؟ أنزل إلى مستواه وأطلب منه أن يسمح لنا بالعبور؟ أم أصمت وبهذه الحالة اأطيل فترة وقوفنا أمامه وهذا يستدعي أن يعاود فتح أحاديث جديدة معي، وهوما لم أعد أحتمله أبدًا. موقف لا أحسد عليه أبدا.
وهو ينظرالي بنظرة خبيثة تحتمل عشرات المعاني قررت أن أنهي هذه المهزلة باستعمال السياسة فقلت له: يعني نحنا اتاخرنا كتير وانتو عندكن شغل.
رد قائلاً: شو هالجواب الدبلوماسي يا انسي انت كتير ذكية، ماشي رح اعتبرو هاد طلب لتمشوا والنا لقاءات تانية ياانسة يالله امشوا؟
وتابع والسائق يشغل سيارته : بكرا عم استناكن الصبح لا تتأخرن.
وأخيرا ابتعدنا عنه وما إن تجاوزنا حاجزهم حتى قال لي السائق: شو هالإبن الحرام هاد مارح يحل عنك يا آنسة بالساهل أحسن شي تغيبيلك كم يوم عن المدرسة.
نظرت إلى هويتي وقد وضع داخل غلافها البلاستيكي ورقة بيضاء، أخرجتها واذا مكتوب عليها رقم جواله وعبارة “انا محمد وعم استنى اتصالك”. أعطيتها لصديقتي كي تقرأها فانتبه السائق علينا، فهم انه ترك لي رسالة فزاد إصراره علي أن أتغيّب عن المدرسة لفترة. فردّت عليه إحدى زميلاتي بانه اذا انتظر سيارتنا ولم يجدنئ فيها سيفهم انني تقصدت ان اغيب وربما “يتحطط”على السيارة. وفي النهاية قررنا أن نذهب الى المدرسة من الطريق الشرقي لمدينة إدلب نحو الريف وهو بعيد جداً ومكلف أيضاً، لكي لا نمر على حاجز النظام ولا نرى ذلك العسكري. وبالفعل سلكنا الطريق الجديد لثلاثة أيام. وفي صباح اليوم الثالث كنا انا وصديقتي ننتظرالسيارة للذهاب إلى المدرسة جاءني اتصال على جوالي من رقم غريب، فأجبت على المكالمة وإذا بصوت شاب بلهجة علوية يقول: صباح الخير آنسة …. شو وينكن ماعم نشوفكن ولا اتصلتي فيني والامام علي اشتقتلك.
صعقت من هول الصدمة من أين حصل على رقمي؟ وكيف؟ وماهو الطريق لاتخلص منه؟ أقفلت الخط بوجهه دون أن أجيبه بأي كلمة وأقفلت الجوال.
أخبرت صديقتي فورا فاقترحت أن تجيبه هي وتستعمل لهجة حلبية لتوهمه ان الرقم خطأ، بالفعل فتحت الجوال وفورا عاود الاتصال فأجابته صديقتي وأخبرته بانها ليست الآنسة … وأنها من حلب وأنه يطلب الرقم الخطأ، حمدا لله اقتنع بهذه الحيلة ثم أعطيتها شريحة الرقم في حال عاود الاتصال ليتأكد، وبالفعل لاحقا اتصل وتأكد من أنني لم اكن المجيبة. انتقلت الصدمة إلى صديقتي من أين حصل على الرقم؟ هل وصل إلى السائق وطلب منه الرقم؟ وإن لم يكن السائق فمن يا ترى؟ بدأنا نفكر ماذا سأفعل لأتخلص منه. عندما وصل السائق سألته بدون ان تسمعني أي من زميلاتي لكي لا ينسجوا القصص وينتشر الخبر. فأكد لي انه لم يعطِ رقمي لأي شخص ولم ير ذلك العسكري ولم يمرعلى حاجزه أبدا، فليس له طريق من هناك إلا معنا واستغرب بدروره من الاتصال.
اضطررنا لسلك الطريق الطويل إلى المدرسة لأسبوعين، وتحمل المشقة الجسدية والمادية وقد تكفلت أنا بالجزء الأكبر من المبلغ لكوني السبب في ذلك. وبعد الأسبوعين اقترح السائق أن أتغيب عن المدرسة ليوم واحد ليعودوا إلى الطريق القديم ويستكشفوا الوضع. وبالفعل ذهبوا ووجدوا أن جميع العناصر على الحاجز تغيروا، وتأكد السائق وهو يعطي علبة سجائر لأحد العناصر كي يسمح له بالعبور بأن عناصر الحاجز اخذوا مؤازرة الى حلب، أي أن الخطر زال على الأقل حاليا. وبهذا عدنا لنسلك نفس الطريق ووحده الله يعلم ماذا يخبئ لنا هذا الطريق من أحداث.