يوم اعتقال ابني

في 27 آب/أغسطس 2011، ذاك التاريخ المشؤوم في حياتي، يوم اعتقال ابني ابراهيم. كانت تجربة قاسية لنا. في بداية الحراك الثوري في المدينة، كان ابراهيم ورفاقه من الناشطين الذين يتمتعون بجرأة وشجاعة وإقدام…

سيدتان تمشيان في حي المرجة في حلب. تصوير حسام كويفاتية

كان كل يوم جمعة حينها يوماً مميزاً، بمظاهراته التي تخرج بعد الصلاة، كنّا نشعر وكأنّه يوم عيد. وكان لبيتنا في هذا اليوم خصوصية فريدة، فمنذ أول مظاهرة خرجت في إدلب كان الشباب يخططون ويتفقون ويعقدون اجتماعاتهم غالباً في بيتنا… وما إن تنتهي المظاهرة حتى يتحول بيتنا لشبكة أنترنت لنقل الوقائع والأحداث. كل واحد منهم استطاع أن يلتقط عدة صور، وعليهم إرسالها إلى القنوات لبثها من أجل تكذيب قنوات النظام … كان الكل يعمل كخلية نحل…

في البداية كان النظام يستخدم رشاشات المياه لتفريق المتظاهرين، فيأتون مبلّلين مرهقين من الركض. يهربون من الأشرار أو قد يكون أحد هؤلاء الأشرار قد نال منهم بضربة من عصاه … مازلت أذكر الشهيد الشاب محمد مشان رحمه الله كيف تكالبت عليه عصيَهم وأيديهم حين استطاعوا الاإمساك به، وأودع على إثر ذلك المعتقل، ويعلم الله بما فعلوا به هناك.

فؤاد، محمود، محمد، عبد الكريم، مسلم،  مؤمن، فادي، عابد، محسن، والكثير الكثير من الشباب. منهم من استشهد ومنهم من هاجر، ومنهم من لا يزال مع الثوار يشارك في معارك الشرف والتحرير… يومها لم ينج أحد من الاعتقال والتعذيب، وابني ابراهيم أحدهم. فترة اعتقال ابني مرّت قاسية عليّ، وعصيبة جداً. كنت في أواخر الليل وبعد أن يهجع الجميع أجلس وحدي أفرغ جعبتي من الدموع والمشاعر والأحاسيس، على دفتر عاصر معي تلك الفترة، وكان صديق لياليّ المظلمة.

سأسرد لكم ما كتبت في دفتري:

  • الأحد 16 تشرين الأول/أوكتوبر 2011 : هذا اليوم واليوم الذي قبله كانا من أقسى الأيام التي قضيتها … سمعت أنك متأزم نفسياً، أنك خائف، أنك مكتئب. وتخيّلت كم أنت حينها ستكون ضعيفاً خانعاً ذليلاً. وبكيت في هذا اليوم بكاءً مريراً، وتمسكت بحبال الله كثيراً، ودعوته أن يفرج عنك ويمدّك بالقوة … كم أنت صغير على ما مرّ بك يا ابراهيم.

 

كل هذا وأنا لا أدري ما الذي يدور حولي، لم يخبرني أحد ما يقال عنك، بأنّك من كثرة التعذيب فقدت عقلك. كان الكل يعلم ذلك والكل مستنفر لأجلك. ونحن لا ندري وأحمد الله كثيراً أننا لم نكن ندري. طوال النهار وأنا أفكر، لا بل قررت أنني سأذهب إلى الشام وسأجلس أمام مقر الأمن الذي أنت موجود فيه. ومهما كانت النتائج لن أتزحزح حتى أراك. كانت ليلة ليلاء، وأنت تخطر ببالي بصور متعددة.

  • الاثنين 17 تشرين الأول/أوكتوبر 2011 :

أخيراً جاء الصباح، وانطلقنا إلى الشام وما أقسى تلك الرحلة، وما أطول ذلك الطريق. طوال تلك المسافة وأنا أتخيل أولئك السفلة، وكيف قضيت برفقتهم ذلك الطريق، من إدلب إلى الشام. كم هي مسافة طويلة ورحلة قاسية، كيف كنت تجلس في سيارة المساجين، وماذا كانوا يفعلون بك، وكيف كانت نفسيتك حينها؟

أخيراً رأيتك. يا الله ماذا أقول؟ كيف أصف لك تلك اللحظة؟ أيعقل أن يكون هذا الذي أمامي أنت ابراهيم؟ إنسان ذليل مكسور محبط. لم أرَ على وجهك سوى علامات الخوف. أذلّ الله من أذلّك. كان المنظر لا يوصف، لن أنساه أبداً. كم غيّروك؟ ماذا فعلوا بك؟ أراك هزيلاً ضعيفاً أصفر اللون. أخذتك بأحضاني، وشددتك وقربتك إليّ، كنت تشدّني أكثر وتقترب مني أكثر، وكنّا نبكي. كنت أريد أن أعطيك قلبي، أريد أن أعوّضك عن شهرين وعشرين يوماً، من الذلّ والقهر والحرمان، عشتهم بعيداً عنّي، وأنت الذي لم تتجاوز الثانية والعشرين بعد.

جلست قربك، وأخذت أكلّمك، كنت طبيعياً جداً، كان عقلك سليماً. لم تكن مجنوناً. تمنّيت ألّا أتركك، تمنيت أن أبقى معك. ولكنهم سفلة، تركوك عندهم وأخرجوني دونك، وأنا أتساءل أيمكن أن تعود كما كنت، ذاك الشاب الواثق من نفسه، القوي الذي لايخاف أحداً، أيمكن أن تعود كما كنت؟ حمدت الله كثيراً كثيراً على كل حال. يكفيني أنك بخير، وأني رأيتك ولمستك وكلمتك.

يارب فرجك ياالله. كنت حين أناجي الله أقول: يا مغيث أغث ابراهيم، وفكّ أسره، واكشف ضره، فقد نفذ صبرنا. وبعد رؤيتك بت أقول واكشف ضره فقد نفذ صبره.

بعد خروجه من المعتقل، أخبرني ابراهيم أنه وبسبب التعذيب المستمر، فقد ذاكرته. قال أنّه لا يذكر شيئاً، هكذا أخبروه. لكنه يعلم أن جزءاً كبيراً من فترة جلوسه في المعتقل ممحي من ذاكرته.

 

كفاح قباني (48 عاماً) من مدينة إدلب، أم لثلاثة أبناء وجدّة لطفلة، نشطت منذ بداية الحراك المدني عبر التظاهرات والطبخ للثوار ومساعدتهم، إضافة لتحميل أفلام المظاهرات المصورة ونشرها مشاركتها عبر شبكة الأنترنت. اعتقلت قوات النظم ابنها الأكبر الذي تعرّض لتعذيب شديد. تعيش كفاح قباني حالياً في جنوب تركيا مع عائلتها.