ويحدث أن يُستبدل العرس
أذكر مساء 15 حزيران/يونيو 2013، جاء أخي زهير من الجبهة، كان عمره 18 عاماً، جلب معه أغراضه كلها ووضعها في المنزل. أعدّت أمي الطعام احتفالاً بعودته، زهير احتل مكان أبي بعد اعتقاله واختفائه. جلست مع بقية إخوتي ننتظره، خرج مشرقاً بهياً رائحته الجميلة تسبقه. قام بتقبيل الجميع على غير عادته، كان يريد أن يملأ الفراغ الذي تركه أبي في نفوسنا.
جلسنا حول الطعام نتبادل الأحاديث، قال زهير “سأعود إلى الجبهة لمدة يومين أو أقول لك حتى تنتهي المهزلة التي سوف تقومون بها في العائلة”. أجابته أمي “ابق معنا، يجب أن تحضر عرس خالتك الصغرى، فهي لها حق عليك”. كان ردّه “أي زفاف هذا و أبي و خالي معتقل و والشهداء في دوما ما زالت دماؤهم ساخنة، لن أحضر”. عبثاً حاولنا إقناعه، أصرّ على رأيه. خرج في الصباح الباكر، وقبل أن يخرج أوصته أمي بأن يحاول تأمين بعضاً من الخبز و والطحين. كان الحصار الذي فرضه حكم بشار الأسد على الغوطة في بدايته.
كانت بانتظاره تلك السيارة التي امتلأت بشباب في مقتبل العمر، مثل أخي. حاولت أن أسترق النظر إليهم من خلف الباب، أغلبهم من حارتنا. عرفتهم من بداية الثورة في الصفوف الأولى في المظاهرات، واليوم انتقلوا إلى الصفوف الأولى في ساحات الجهاد.
بعد ذهاب زهير بقليل جاءت جدتي وطلبت من أمي أن تذهب برفقتها لاختيار فستان الزفاف لخالتي الصغرى، كان عرسها بعد أيام قليلة. وافقت أمي ولكنها لم تكن مرتاحة، أحسست بها كانت خائفة وقلقة. لا تعرف ما السبب ولكن بالرغم من ذلك ذهبت معها.
بعد عدة ساعات عادت أمي والتوتر يبدو على محياها. سألتها عن جولتها مع جدّتي في السوق. أخبرتني عما ابتاعوه للعروس. طلبت منها أن تصف لي فستان العروس فأخبرتني بأنها ستعود وجدّتي غداً إلى السوق لإحضاره حيث أنه لم يجهز بعد. وفي اليوم التالي عادت أمي إلى السوق برفقة جدّتي، وذهب إخوتي الى المسجد القريب حيث كانوا يقومون بحفظ القران الكريم. بقيت وحدي في المنزل أعدّه و أرتّبه للعرس الذي سيقام بعد عدة أيام في منزلنا. منزلنا الذي غادره الفرح منذ غادره أبي.
نظرت إلى الساعة كانت العاشرة صباحاً، تأخر أخوتي على غير عادتهم. أصوات انفجارات بعيدة مسموعة واشتباكات. آه يا أخي حماك الله أنت ورفاقك.
فجأة قرع الباب بسرعة وقوّة. ركضت نحوه لأفتحه، وإذ بمجموعة مجاهدين يحملون أخي على أكتافهم والدماء تغطي وجهه. قبل أن أستوعب ما حدث، دخلوا به إلى ساحة المنزل وهم يكبرون للشهيد والدموع في عيونهم. صرخت وركضت نحو جثمان أخي أعانقه. أو لعلّي كنت أحاول إيقاظه من نومه، لكن دون أن يتسجيب لي. قال لي أحد الشباب: أين أهلك ليقوموا بوداعه، نريد أن ندفنه لنعود الى الجبهة، فالمعركة على أشدها الآن”. لم أتمكن من الإجابة، اختنقت بالأحرف التي بقيت عالقة في حنجرتي. حاولت أن أهدّئ من روعي، أخبرتهم بمكان بيت جدّي، طلبت منهم أن يذهبوا ليخبروا جدي.
تركوني وحدي مع الشهيد وغادروا جميعهم. كانت تلك آخر فرصة لي لأحدثه قبل أن يوارى الثرى. أخبرته كم أحبّه، أخبرته كم آلمني غياب أبي وأشعرني بالضعف. وأخبرته أن غيابه الآن أشد مرارة من غياب أبي. بقيت بجواره حتى دخلت أمي. من شدّة مصيبتها لم تستطع حتى البكاء. عانقته وضمته إلى صدرها. التفّ إخوتي من حولها. دخل رفاقه ليحملوا جثمانه إلى مسجد الحيّ ليصلّوا عليه. ذاك المسجد الذي كان يوماً يعج بأبنائه المتظاهرين، ها هو اليوم يرحلون الواحد تلو الآخر.
مشينا وراءهم. و بعد انتهاء الصلاة وضعوه في السيارة وذهبوا به. بصعوبة بالغة استطعت أن أعيد أمّي إلى المنزل الذي دخلته ولم تنطق بأي كلمة تعبر بها عن حزنها.
أمّا جدتي التي كانت تحضّر لأن تقيم عرس ابنتها الصغرى، أصبحت الآن في مأتم حفيدها. أذكر جيّداً كلمات أمي في ذاك اليوم. قالت “كنت أشتري فستان زفاف أختي، في الوقت الذي كان ابني يُلفّ في كفنه”.
في المساء حاولت الاتصال بأصدقاء أخي الذين كانوا معه في تلك المعركة. كنت أودّ أن أعرف كيف استشهد. أخبروني أن هذه المعركة كانت للهجوم على المطاحن الموجودة في منطقة عدرا، لاغتنام الطحين لأهالي الغوطة المحاصرين. وأن زهير أخي كان من الإعلاميين الذين تواجدوا في الصف الأمامي لتغطية المعركة. أصابته قذيفة دبابة أودت بحياته على الفور مع زميليه.
في ذلك اليوم لم يخرج أخي فقط ليؤمن لنا الخبز للبيت، بل خرج ليؤمن الخبز لجميع أهالي الغوطة، وعاد مستشهداً. تم استبدال حفل الزفاف الذي كانت العائلة تحضر له بحفل استشهاد أخي، الذي ستبقى ذكراه في قلوبنا ما حيينا. ذكرى ممزوجة بالألم والحزن.
سمر الأحمد (25 عاماً) أخت شهيد، ابنة معتقل. تعمل في المجال الإغاثي، متزوجة ولديها طفلة. وتعيش بالغوطة الشرقية المحاصرة بريف دمشق.
بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي