ولا زلت أحلم بورقة الأسئلة
معلمة في أحدى مراكز دورات محو الأمية في ريف ادلب - تصوير معهد صحافة الحرب والسلام
"في صيف ذلك العام قررتُ ألا أستسلم، وتمكّنتُ كغيري من نقل دراستي من حلب إلى جامعة إدلب، فأُقدّم امتحاناتي فيها ولا يعود لأهلي أي حجّة بألا أدرس."
شجَّعني والدي كي أُكمل مشواري في التعليم حتى الحصول على الإجازة الجامعية، فذلك حلمٌ يراودُني منذُ الصغَر. واقتربَ الحلم…
حصلتُ على الشهادة الثانوية في العام 2009. وخوّلني معدّلي دراسة الحقوق في جامعة حلب. كنت مسرورة جداً! وكوني من ريف إدلب استأجرتُ شقة مع اثنتين من زميلاتي في مدينة حلب لمتابعة دراستنا. أمضيتُ من دراستي الجامعية ثلاث سنوات، ولم أفكر في يوم أنّ تعبي سيذهبُ سدى! لكنَّ الحرب غيّرت مسار حياتنا…
في العام 2012 منعني والداي من الذهاب إلى حلب، وذلك بسبب انتشار حواجز النظام على طول الطريق، خوفاً من الإعتقال كما حدث لزميلتي من إحدى القرى المجاورة.
حزنتُ وشعرتُ أنّ حلمي المرسوم، بخطر!
لكن في صيف ذلك العام قررتُ ألا أستسلم، وتمكّنتُ كغيري من نقل دراستي من حلب إلى جامعة إدلب، فأُقدّم امتحاناتي فيها ولا يعود لأهلي أي حجّة بألا أدرس. وحصلَ ما خططتُ لهُ، وكنتُ قد وصلتُ إلى سنتي الثالثة وهناك سنة واحدة فقط تفصلني عن حلمي بحمل الشهادة الجامعية!
لكن في الثالث أو الرابع من شهر كانون الثاني/يناير 2013 (لم أعد أذكر التاريخ بالضبط)، استيقظتُ باكراً تحضيراً للذهاب إلى الجامعة فلدي امتحانات… وانطلقت على الرغم من أنهُ كان هناك خوف شديد ينتابني نتيجة الظروف الأمنية المتوترة.
على الطريق، مررنا عبر عدّة حواجز تابعة للمعارضة، قبل أن نصل إلى حاجز النظام على مشارف مدينة إدلب. وكان هناك طابور طويل من السيارات، فاضطررنا للإنتظار ما يُقارب الساعة. إلى أن اقترب دوري في التفتيش…
حينها رأيتُ إحدى البنات أمامي كيف أنَّ أحد عناصر قوات النظام يقومُ بجرها باتجاه غرفة لا نعرف ما في داخلها… زادَ خوفي وفكّرتُ بالتراجع! لكنّ دوري كان قد اقترب وبالتالي فإنَّ رجوعي يعني كارثة! فإن لم يكونوا قد شكّوا بي، إن تراجعت سيفعلون! فبقيتُ واقفة وأنا أرتجف…
الحمدُ لله أنهُ تمَّ تفتيش مجموعة كاملة أتينا في الباص معاً، ومرَّ الأمر بسلام… ودخلتُ إلى مدينة إدلب ثم اتجهتُ إلى مبنى كلية الحقوق مقابل فرع الشرطة.
عندَ الحادية عشرة كانت الأمور على ما يرام، ونقوم بالكتابة في الإمتحان! أجواء الإمتحانات طبيعية، وكل شيء كان يبدو طبيعياً! ولم أكن أتوقّع أن يحصل أي شيء لأنّ المدينة كانت تعج بعناصر الأمن والشبّيحة، وبالتالي بحسب النظام “الأمن مستتب”.
بعد حوالي النصف ساعة خرجَ صوتُ انفجار قوي ومُرعب! إنهُ قريب… قريب جداً!
تطاير زجاج النوافذ فأُصبتُ ببعض الجروح الطفيفة جرّاء ذلك… اختبأتُ وزملائي تحت المقاعد ثمّ بدأ صوت سيارات الإسعاف لنقل الجرحى، وبدأت صيحات عناصر الأمن بشتم الثوّار على أنهم إرهابيين ويقفون وراء التفجير! متوعدين بالإنتقام مع أصوات إطلاق الرصاص.
صارت رائحة البارود تعبق بالمكان، فنظرتُ إلى ورقة الإجابة وقلتُ في نفسي: لقد انتهى حلمي! وفي تلك اللحظة تمنّيت لو أني لم آتِ…
خرجتُ أنا وزميلتي وتُدعى وصال، وهي من إحدى القرى المجاورة لنا، وبدأنا بالركض مسرعين إلى أن وصلنا إلى أحد الأزقة كي نختبئ من زخ الرصاص! توجهنا إلى منزل إحدى قريبات عائلتي التي تقيم في إدلب وتُدعى ميساء… لم يكن منزلها قريباً من الجامعة، لكنَّ بسبب الجري وصلنا بسرعة وكأننا لم نقطع أي مسافة!
كانَ وجهُ صديقتي شاحباً من شدّة الخوف، إلى أن ابتعدنا عن صوت الرصاص وكانَ قد تحوّلَ لاشتباكات! ما زادَ الطين بلّة أننا غريبتين عن المدينة وتقريباً لا نعرف منها أحداً، وشوارعها وأماكنها غريبة عنا… وصلنا إلى منزل السيدة ميساء وكان قد هدأ الوضع… ودخلنا مُسرعتَين.
كان يمكن لهذه الحادثة أن تمر بأقل الخسائر، لكنَّ أهلي لم يسمحوا بذلك والظروف كذلك لم تسمَح!
فلقد انقطَع الإتصال بأهلي لساعات بسبب تعطّل خطوط الهاتف على وقع التفجير، ثمَّ علمتُ أنّ خوف أهلي علي كان قد وصلَ إلى ذروته. ومعهُ قرارهم بأن أتوقف عن الذهاب إلى الجامعة إلى غير رجعة!
يا حسرتي، قراري بأن أنقل امتحاناتي إلى إدلب لم يشفع لي، ولاحقني المنع أينما ذهبت! مضت أيام تعيسة وسنوات، وإلى الآن أحلم أن أعود إلى قاعة الإمتحان وأن أجد ورقة الأسئلة تنتظرني كي أترفّع إلى السنة الرابعة وأُحقّق حلمي… لكن هيهات! ومع ذلك يستمرُّ الحلم…
دارين الخالد (29 عاماً) متزوجة وتُقيم في ريف إدلب. كانت تدرس في كلية الحقوق في السنة الثالثة لكنها تركت الدراسة بسبب الحرب.