ورحل عدنان قبل أن تزوجه أمه
شاب من ادلب ترك دراسته الجامعية ليعمل في حقل الزراعة
"يوم استشهاد ولدي كان آخر عهدي. به قبلات حارة طبعتها على وجنتيه الغضتين فقال مازحا: "هريتيني بوس بس معليش تكرمي"."
انتهى حصار داريا الذي دام أربعة أعوام بالتهجير القسري إلى الشمال السوري، تم إفراغ المدينة من سكانها نهائياً في الشهر الثامن من عام 2016. مدينة خاوية ما من شيء فوق ترابها له ثمن بعد أن أمسى الثمين تحت ترابها.
كان آخر العهد بها، زيارة مقبرتها التي أُغلقت على ألفي شهيد ضمتهم بين جوانبها، من شباب ونساء وأطفال.
خرجنا منها وبلسم جراحنا هو الأمل بالحفاظ على ما تبقى من الأرواح. و نحن نمنّي أنفسنا بأمان فقدناه طيلة 4 سنوات، بيوم لا يلاحقنا فيه شبح الموت، وألم الفراق. وظننا أن مقبرة داريا قد اختتمت بيوم التهجي، لكن ذلك لم يحصل أبداً .
أنهيت أعمالي وجلست مع أوراقي أكتب ذكرياتي خلال الحصار، لكن رسالة وصلتني أغلقت عليّ أبواب ذاكرتي، إلا ما كان من ذكريات عائلة أم عدنان. تلك العائلة التي قضيت معها في أعوام الحصار، وتقاسمنا الجراح مع فتات الخبز وحبات القمح. كانت عائلة صغيرة تضم الأم والأب وأولادهما الثلاثة عدنان وصفا و الصغيرة دانيا.
كانت الرسالة خبر استشهاد عدنان قبل قليل، بفعل الغارات الجوية جنوب إدلب، بالقرب من معرة النعمان. لم اصدق الخبر أول الأمر، لكن الرسائل توالت مؤكدة النبأ. اختلط شهيق بكائي بكلمات التوجع والألم، وأصابني الذهول.
“أم عدنان حبيبتي في أي حال أنتِ الآن” لقد آثرت العودة إلى داريا رغم شدة القصف والحصار لتكون قريبة من ولدها الوحيد. لا أنسى ذاك اليوم الذي عدت عدنان فيه بعد أن أصيب بشظية في رأسه. وجدتها قد مرضت بجانبه. وما إن طمأنتها وأخبرتها عن إصابات مماثلة لإصابته وهم الآن بخير حتى استبشرت واستنار وجهها.
لم تدخر جهداَ في خدمة الناس والضعفاء طيلة أيام الحصار. من الطبخ إلى الخبز، ثم إلى أعمال الزراعة وغيرها. لك الله يا أم عدنان لقد لحقت بنا النيران إلى الشمال لتخطف زهرة شبابنا هنا، بعد أن تجرعنا مرارة التهجير، لتكون المأساة مأساتين اليوم.
وكما كل البشر عند تجدد المصائب تتفتح جراحها القديمة. يغوص أحدنا في ذكرياته الأليمة ليضم إليها آلاماً جديدة، فيشعر أن المصائب كلها الآن وقعت ويعيش مجدداً لحظاتها الأولى.
يوم استشهاد ولدي كان آخر عهدي. به قبلات حارة طبعتها على وجنتيه الغضتين فقال مازحا: “هريتيني بوس بس معليش تكرمي”. وتذكرت حديث أم عدنان أن وحيدها المدلل، كان ينام في حضنها ولا تشبع من تقبيل وجنتيه. كان عدنان مثالاَ للأدب وحسن الخلق والحنان والشجاعة، والاستبسال في سبيل بلده وأهله. شهد له كل من عرفه من أهله ورفاقه وجيرانه.
كأني بأمه تضمه لصدرها ضمتها الأخيرة وتهمس بأذنه :”قم يا عمري، أبوك الضعيف يريد أن يتكئ على ساعدك المفتول، وأختك الصغيرة تنتظر ذراعيك الحانيتين لتنام بينهما. وسجادة صلاتك تطوق لدعائك ودموعك بين يدي خالقك. أما أنا فأنتظر ضحكتك الحلوة وأتحسس دفء خديك بقبلاتي”.
وتختلط دموعها بدمائه الطاهرة. أم عدنان ودعت مهجتها اليوم فتحمد الله أن استطاعت وداعه، فقد خسرت عدداً كبيراً من أفراد عائلتها بصاروخ ألقته طائرة حربية، على مبنى كان مسكنهم، وقد اجتمعوا بقبوه طلباً للأمان.
لم تستطع وداعهم فقد دمر المبنى بالكامل ولم ينج من سكانه إلا طفلة في العاشرة من عمرها. ولم تستطع فرق الدفاع المدني انتشال الجثث والعالقين تحت الأنقاض لضعف الإمكانيات بسبب الحصار، وقد تجاوز عددهم السبعين بين نساء وأطفال وعجّز.
حين التقيت أم عدنان أخبرتني وهي تضغط على يدي، وشهيق بكائها يرتفع ويختلط بكلماتها: “كنت أظن أن مرارة فقد أخوي وأختي وعائلتها هي الأشد. ولكن فقد عدنان كان أشد مرارة من كل مصائبي”.
نعم كان عدنان كل أحلام أمه، فكم مرة باحت إلي أنها تريد تزويجه لتفرح بأولاده، بعد أن استقرت في الشمال، وتنتظر منه أن يختار فتاة لتخطبها له. وكم حلمت به وهو يُحمل على أكتاف أصدقائه و محبيه ويزف بعراضة شامية تليق به. وها هو اليوم يزف على أكتاف محبيه لكنها زفة شهيد.
عدنان وكأنه أحس بدنو أجله فأرسل لأمه آخر رسالة عبر تطبيق الواتس أب، لتصلها بعد خبر استشهاده. “أمي أبي أخواتي أحبكم كثيراً” تفتح أم عدنان جوالها بصمت لتتأمل الرسالة ودموعها تجري بهدوء تغطي شاشة هاتفها من شدة ألمها ومن ثقل همها وأحزانها لكنها لا تتوقف عن ترديد: “الحمد لله …الحمد لله …الحمد لله”
نعم لم يترك لنا جلادنا مكاناً ننشد فيها بعض أمان نشد إليه رحالنا في وطننا. يقتلون كل يوم أحلام أبنائنا التي بنيناها بدمائنا على أرض قدسها رب العالمين وتكرمت بدماء الطاهرين.
سارة محسن (50عاماً) من من الغوطة الغربية لمدينة دمشق. تحمل شهادة جامعية كانت تعمل مديرة مدرسة. متزوجة ولها 6 من الأبناء.