وحيدة في زاوية المسجد…

أمرأة تبكي لمقتل زوجها في معارك كوباني ونزوحها الى الشيخ مقصود بحلب

أمرأة تبكي لمقتل زوجها في معارك كوباني ونزوحها الى الشيخ مقصود بحلب

رغم القصف، لم يكن بوسع أم عبد الرحمن (41 عاماً) مغادرة منزلها الكائن في الدور الرابع في حي الناعورة المجاور لمسجد الحسين، وهو أحد أحياء مدينة إدلب. لم يكن بإمكانها المغادرة مع خمسة أبناء… أما زوجها، فكان قد توفي في أحد فروع الأمن بعدما اعتُقل بتهمة التظاهر.
إلى أين تذهب؟ طائرات النظام لا تغادر سماء المدينة، القصف اسفر عن عدة مجازر بحق الأبرياء… وفي يوم، علت أصوات صافرات الإنذار تعلن عن تحليق طائرات الموت فوق البيوت… ادّعت أم عبد الرحمن الهدوء وأخذت تنادي أبناءها بأن يسرعوا إلى قبو المسجد القريب، لعله يكون أكثر أماناً… حملت بلال أصغر أبنائها وهي تدفع بالبقية للنزول… مضت تدنو من الأرض بطفلها الصغير ثم تعود لترفعه من جديد، وكأن يديها لم يعد بوسعهما متابعة حمل الطفل، ولم تنفك عن الدعاء: “أللهمّ اكفنا شر الطائرة بما شئت وكيفما شئت”.
جلست أم عبد الرحمن مع أبنائها الخمسة في إحدى زوايا مسجد الحسين، علّ بيوت الله تكون آمنة.
ازداد القصف وكثّفت الطائرات غاراتها، حتى غدت المدينة بأكملها تحت نيران الطائرات الهمجية. قد تظن أنّ عدواً خارجياً يهاجم المدينة أو هي إحدى مشاهد القصف في الحرب العالمية… لن يصدّق إنسان مهما كانت سعة مخيلته، أنّ رأس النظام الذي يشغل منصب رئيس الدولة يهاجم شعبه بهذه الطريقة، يقصف مركز المحافظة بالطائرات وكأن الأمر حرب بين دول عظمى!
ينتهي الكابوس الثقيل اذ سكنَ كل حواس أم عبد الرحمن، ليقطعه صوت المؤذّن في المسجد قبل آذان العشاء، وهو يقول: “أظن أنّ القصف قد توقف…”
لكن لم تدرِ تلك السيدة، أنها سترى شيئاً أشد ألماً وأطول عذاباً… خرجت تظن أنها نجت من غارة استهدفت الحي، وهي سعيدة أنّ أبناءها جميعهم بخير، لتنصدم أنها لم تجد منزلها في مكانه، بل أصبح قطعاً متناثرة ملأت أسطح الحي بأكمله وبقي بعض الركام في الأطلال القديمة!
“أين سينام أبنائي بعد اليوم؟” صرخت بحرقة وبكاء، بعدما رأت حطام المنزل… “لن ينام صغيري بجانبي على السرير بعد اليوم، وأُهدهد له هنا” كانت تقول ذلك وهي تقف في مكان غرفة النوم… “لم يعد هنا قفص العصافير وحوض السمك… لم يبقَ لي شيء من بيتي سوى المفتاح، ولماذا سأحتفظ به؟!”
هكذا مضت أم عبد الرحمن لأكثر من ساعة وهي تبكي باستمرار… ولأنّها ليست من المدينة بل من أصول قروية، وجدت نفسها وسط وحدة كبيرة… بالأساس ليس لديها زوجاً تتكئ عليه، وأهلها بعيدون عنها… واليوم خسرت بيتاً يأويها…
انتهت لحظات الذهول وأصبحت مع الحقيقة واقعاً مباشراً وجهاً لوجه، عادت إلى المسجد الذي حماها من القصف، ودخل معها أطفالها… تعود إلى زاوية المسجد، وتضع صغيرها على صدرها، رغم أنهُ منذ فترة لم يعد يأخذ الحليب من صدرها، بل من زجاجته الخاصة التي نسيتها أم عبد الرحمن قبل قصف المنزل. بعينين واسعتين وبكاء مستمر من شدة جوعه، يأبى الطفل أن يستجيب لعرض أمه! لكن أي عرض هذا؟! فلم يعد هناك من حليب في صدرها، وليس هنا زجاجة وعلبة حليب كما كان… ما العمل وما من شيء في المسجد سوى ماء الوضوء؟ وهي تنتظر مساعدة أهالي المدينة، لاحظت أم عبد الرحمن أنَّ طفلها الكبير يتذوّق شيئاً! إنه القليل من السكر كان على الرف مع إبريق الشاي لحارس الجامع… تذوّب الأم قليلاً من السكر بالماء، وبتعبٍ شديد وجوعٍ أشد وظلمة حالكة ودموع تنهمر على وجه الطفل، شرب الرضيع من فوّهة إبريق الشاي بعضاً من الماء والسكر، وبدأ يغالبه النعاس شيئاً فشيئاً…
مع بزوغ خيوط الفجر الأولى، امتدت يد حنونة تهدهد على كتف أم عبد الرحمن… تضطرب ولا تعرف هل هي نائمة أم ما تزال مستيقظة؟ إنه أخوها جاء من القرية… مع بسمة خفيفة على وجهه، جاء مَن يساندها، ومَن تتكئ على كتفه.
تلك كانت قصة أم عبد الرحمن التي روتها لي، والتي أواها المسجد…

سما بيطار (41 عاماً) من إدلب، حاصلة على الشهادة الثانوية. متزوجة وأم لأربعة أبناء. عملت في جمعيات خيرية لمدة عشر سنوات.