وجوه على جدران الزنزانة
شاب يجلس على الطريق في مدينة زملكا
"لم تكن تجربة السجن رغم كل وجعها ومعاناتها تزيدها إلّا إصراراً على المضي قدماً. حتى لو تحولت يوماً ما إلى وجه محفور على مساحة هذه الجدران"
أغلقت ستارتين مثقلتين بالحلم، وحاولت أن تنفض صورهم وأصواتهم العالقة على أهدابها. لم تكن ترجو في هذه اللحظة سوى أن تغفو قليلاً، وألّا تفكر بأي شيء.
كان النوم هو حلمها الوحيد، ولكن تلك الصور المتداخلة ببعضها وأصوات الأنين، كانت تقف عائقاً بينها وبين الرقاد. لم تكن تدرك هل هي ما زالت على قيد الحياة؟ أم أنها الآن في قبر بعيد وحدها، تراودها هلوسات الحياة الماضية .
تتذكر الآن كيف بدأت أولى خطواتها، وهي تتأبط ذراع حريتها وصوتها يعانق مياه الفرات. بهتافات ترددها مع أصدقائها، تحملها لأرض الكرامة التي أزهرت على وقع أقدامهم المطالبة بالحرية بعد دهور الخوف من الصوت والكلمة.
لم تكن تصدق أذنيها، وهي تستمع للحناجر الملتهبة، التي تنادي بإسقاط النظام والفساد. لقد تحقق حلمها أخيراً، وأصبح أبناء جيلها قادرين على تحقيق حلم آبائهم الذي عجزوا عن صنعه. نعم هي تسير الآن في شوارع مدينتها، وتهتف ملء حنجرتها. لقد تغير وجه المدينة، أصبحت كقديسة تسمو بقامتها لتعانق المستحيل، واختفت تجاعيد الخوف التي كانت تغطّي وجه صباها .
حين كان صوت الرصاص يمزق صدورهم العارية، لم تشعر بالخوف أو اليأس. لقد أدركت أن الطغاة لا يمحو رجسهم إلا الدم الطاهر، ومع كل يوم ومع كل قطرة دم، كانت تتأكد أن حريتهم وأرضهم تستحقان المزيد، وأن رفاقها الذين غيبهم الموت أو السجن، أضحوا مصابيح تنير للسائرين على خطاهم طريق الحرية.
ومع ازدياد الظلم والعنف، وتوقف المظاهرات السلمية، وجدت نفسها أمام منعطف آخر للثورة، فالمغيبين في السجون تزايد عددهم، ولابد من وجود من يهتم بقضاياهم والبحث عنهم بين الأفرع الأمنية. كان همها الآن أن تكون صوتاً لهم، وغادرت مدينتها إلى دمشق الروح، وبدأت عملها في متابعة قضايا المعتقلات.
لم تكن تعرف الخوف أو اليأس، وحتى تلك اللحظة التي كبلوا فيها يديها بأغلال حقدهم، كانت تشعر بالكم الهائل من حريتها وعبوديتهم. “هم يخافون من حناجرنا وأقلامنا وكلماتنا وأغنياتنا، لذلك يهجمون علينا كمجموعات شيطانية مزودة بأسلحتها وجبنها وبذاءتها” هكذا كانت تفكّر في نفسها .
في 5 أيار/مايو 2014، وأثناء تواجدها في الطريق، أحاطوا بها مدعين أنهم يريدون استيضاحها بعض الأمور. شعرت بدقات قلبها قد ازدادت، ولكنها واصلت تماسكها أمامهم. وضعوها في سيارتهم مغمضة العينين ومكبلة اليدين، وكانت تشعر بوضوح حجم قوتها، لم تظهر لهم الضعف، وبدأت الأفكار تتزاحم في مخيلتها عن رفاقها، وعن المصير الذي ستلاقيه بعد قليل.
كم مضى على وجودها هنا؟ وكم بقي على عظامها من لحم لم تنهشه السياط التي كانوا يضربونها بها؟ ماذا بقي في جعبتهم من صنوف العذاب لم تذق طعمه؟ حين تتلقى صفعاتهم وركلاتهم، ممزوجةً بكلماتهم البذيئة ورائحة دمها، وصراخهم في وجهها: “أنتِ المسؤولة عن متابعة شؤون المعتقلات، هيا تابعي شؤونك الآن هل نفعتك المعتقلات؟”
تتخيل وجوها كثيرة لا تعرفها، ماتت بصمت في هذه الزنزانات القذرة، في فرع أمن الدولة منذ زمن، حين كنا نحيا حياة لا كرامة فيها. لقد كانوا يتحملون العذاب والموت، ويحلمون أنه سيأتي يوماً ويطبق القصاص على القتلة، ويأتي من يثأر لهم. حينها سترتاح أرواحهم التي لم تجد قبراً يضم رفاتها بجوار أهلهم.
وبعد كل حفلة تعذيب يمارسونها على جسدها النحيل، كانوا يلقونها كقطعة قماش بالية ممزقة داخل زنزانتها. تشعر بأنفاس من رحلوا تضمد جراحها، وتسهر على مداواتها وتبزغ تلك الوجوه المحفورة على جدران الزنزانة، تغمرها بدفء الأمل بالنصر.
كانت تسمع أنينهم الممزوج بنكاتهم المتعبة، وضحكاتهم التي تتحدى قضبان الزنزانة وكرباج الجلاد. تحدثهم عن الثورة التي تعم كل أرجاء سوريا، وكيف ثار الأطفال ضد جبابرة العصر.
كانت تتخيل أنها تضم عودها إلى صدرها، وتعزف لهم وتدندن أغاني الثورة، التي لم يسمعوها من قبل. ترى الوجوه المحفورة في ذاكرة الجدران، وقد أشرقت بالأمل والارتياح، وغابت عنها معالم الإعياء والألم. وحين تتوقف عن الغناء كانت تسمع أصواتهم وهم يحثونها على المتابعة : غني أمل … غني للثورة
تستحق حريتنا كل هذه الدماء، لأن أطفالنا يستحقون أن ينعموا بالكرامة التي سحقتها أقدام أصنام صنعناها من ذلنا وحولناها لآلهة لا تعصى.
لم تكن تجربة السجن رغم كل وجعها ومعاناتها تزيدها إلّا إصراراً على المضي قدماً. حتى لو تحولت يوماً ما إلى وجه محفور على مساحة هذه الجدران. كغيرها تعلمت في ليالي السجن أن ترسم النوافذ على جدران الزنزانة بجوار الأسماء المحفورة على الحائط. وكانت ترى الشمس من خلالها.
بعد خروجها من المعتقل لم تتردد لحظة في متابعة شؤون المعتقلات في السجون، والعمل على إيصال أصواتهن للعالم.
غادة باكير (44 عاماً) مديرة مركز البراءة للطفولة والدعم والإرشاد النفسي، مدربة في مجال الاستعداد والحماية عضو منتدى المرأة السورية في سراقب.