والدي الذي ما زلنا بانتظاره

بتاريخ 28  حزيران/يونيو 2012، اقتحمت قوات تابعة للنظام السوري  مدينة دوما، وارتكبت مجزرة بحق الأهالي تم القضاء على عائلة بكامل أفرادها. حينها هربنا من المدينة، ولم نعد إلا بعد انقضاء شهر ونصف الشهر تقريباً.  كان شهر رمضان قد حلّ، لكن أبي الذي فقد أخيه وعائلته خلال إحدى المجازر، لم يتمكن من النسيان ولم يتقبّل فكرة البقاء في دوما. كان يريد ترك من المدينة، واستئجار منزل خارجها.

قرّر والدي أن يكون البيت المستأجَرفي ضاحية الأسد، القريبة من دوما والمليئة بعائلات ضباط وعسكريين في الجيش السوري النظامي. لكن أمي رفضت ذلك، وأصرّت على موقفها. حاول أبي إقناعها، أذكر أنه قال لها:  “إذا كنا في الضاحية فنحن مع عائلات النظام، وبالتالي لن تتم مداهمتنا في كل حين كما هنا في دوما. والوضع آمن هناك لأن النظام لن يلحق الضّرر بمؤيّديه،  والكهرباء والمياه لا تنقطع. والمنزل الذي أريد استئجاره مكوّن من ثمانية غرف و مجهّز بشكل جيد”.

الطرقات في دمشق بحواجزها الإسمنتية. تصوير: خاص

لكن الخوف تغلّب على أمي. استمر أبي يحاول اقناعها، حتى أخبرها أن قراره لا رجوع عنه، وأنه استأجر المنزل.  في اليوم التالي قام أبي بجمع كل الأوراق الرسمية للعائلة، من أوراق ملكية وهويات وحتى عقد زواجي وضعه معه في السيارة، وبدأ يعد العدّة لنغادر المنزل. طلب منّي أن أعدّ طعام الإفطار، بينما ينقل بعض الحاجيات إلى المنزل الجديد. يومها اصطحب أمي معه وتركا بعهدتي إخوتي الصغار. فوجئت بعد مغادرتهما بوقت قليل بعودة أمي. سألتها عن السبب، أخبرتني أنها تشاجرت مع أبي في السيارة فنزلت وعادت، وأن أبي سيعود ليتناول معنا طعام الإفطار، لكنه لم يأتِ.

عند الساعة الثانية بعد الظهر جاء أخي الكبير إلى المنزل، كان يريد مفاتيح مكتب أبي التي كان يحتفظ بنسخة منها في المنزل. لكنه لم يجدها فسأل أمي التي أخبرته بأنها ولا بد مع أبي، فاتصل بأبي على هاتفه المحمول. لكن أبي لم يجب. حاول مرّة أخرى ولكن دون جدوى. قالت له أمي “بالتأكيد أنه مشغول لذلك لم يرد عليك، سنعيد الاتصال به بعد ساعة أو من الممكن أن يتصل هو عندما ينتهي من عمله ويرى رقمك على هاتفه”. بعد ساعة وردنا اتصال من صديق أبي يسأل عنه، استغربت أمي اتصاله أخبرته أنه غادر المنزل منذ أكثر من ساعتين. طلب منها أن تخبر أبي باتصاله.

اقترب موعد آذان المغرب، وأبي الذي غادر البيت صباحا على أن يعود على الإفطار، لم يأتِ بعد. ازداد توتّر أمي وخوفها على أبي. اتصلت به على هاتفه المحمول لتجده مغلقاً.  لم تدرِ ما تفعل، وبدأت تتصل بكل من تعتقد أنه يعلم بمكان أبي. ولكن دون جدوى، لا أحد يعلم بمكانه. قرابة الساعة الثامنة مساءً، جاء جدي ليكون معنا، وراح أخي يبحث عن أبي في الشوارع وعند أصدقائه. اتصل صديق والدي بنا من جديد، هذه المرة أخبرنا أن هناك من شاهد أبي في ضاحية الأسد مع قوات الأمن السوري وهو مكبل اليدين، وأن السيارة التي يملكها كان يقودها عنصر من الأمن، لذلك يفضل أن نتوقف عن الاتصال برقم أبي لأنه معتقل لديهم .

كان هذا الخبر بمثابة مصيبة حلّت بنا، لم نعرف ماذا نفعل أو لمن نلتجئ. اتصلت أمّي بمعارف أبي تحاول أن تحصل على أي نوع من المساعدة، ولكن دون جدوى. بعضهم قال لأمي بأنه يريد مالاً ليعرف بعض المعلومات عن القضية، فوافقت على ذلك مقابل معلومات مؤكدة. ولكنها كانت تعلم أن كل تلك الوساطات كاذبة، هم يريدون المال فقط، ولن يستطيعوا أن يقدموا لها شيئاً.

منذ ذلك الوقت وأبي معتقل، بحسب ما علمنا من صديقه الذي نقل عن أحدهم مشاهدته له خلال اعتقاله من قبل وحدات تابعة للنظام، لا نعلم إن كان على قيد الحياة أم لا. جدّتي التي فقدت عائلة ابنها الأكبر وعادت لتفقد ابنها الآخر أصيبت بجلطة قلبية. على إثرها قررت مغادرة دوما واتجهت الى مدينة السويداء. أما نحن فبقينا في منزلنا في دوما، لأننا لا نملك أية أوراقاً ثبوتية، خسرناها مع أبي، ولم نستطع أن نخرج بدلاً عنها خوفاً من ملاحقة النظام لنا.

فقدنا أبي في 6 آب/أغسطس 2012، حتى اليوم وكلما عرفنا بخروج معتقل من الأفرع الأمنية نحاول التواصل معه علّنا نحصل على أخبار عن أبي. و لكن دون جدوى.

حتى اللصوص كثروا من حولنا. الكل يعرض علينا أنه يستطيع أن يخرج أبي من السجن، أو أن يأتي بمعلومات عنه مقابل المال. لكن عندما نطلب منهم اثباتاً أكيداً من أبي يتهربون، فنعلم أنهم لا يستطيعون فعل شيئ.

تدهورت أحوالنا المادية، وفقدنا جزءاً كبيراً من ممتلكاتنا.  اضطرت أمي للخروج والبحث عن عمل لتعيلنا منه.  أخي الذي لم يتجاوز 17 عاماً  من العمر التحق بالجيش الحر. في كل المناسبات  والأوقات نذكر أبي، نتحدث عنه وعن ذكرياتنا معه، نبتسم ونشعر بوجوده بيننا. ونحن ما زلنا بانتظاره.

سمر الأحمد (25 عاماً) أخت شهيد، ابنة معتقل. تعمل في المجال الإغاثي، متزوجة ولديها طفلة. وتعيش بالغوطة الشرقية المحاصرة بريف دمشق.