هي أعطتني القوة
بدأت ثورة الشعب السوري السلمية في 15 آذار/مارس 2011. انتفضت مدينة حمص في 18 آذار/مارس 2011، تلبية لنداء درعا وكان الهتاف “يا درعا لاتهتمي بفديكي بروحي ودمي”. أصبح الهتاف قولاً وفعلاً، وسالت الدماء أثناء المظاهرات، وزاد التصعيد العسكري ضد المدنيين. وبدأ الكفاح المسلح، فتحت أبواب جهنم وخرجت منها حمم النار.
أحسست بالحزن، بالعجز، بالحاجة إلى ان اقوم بعمل يفيد الثورة والثائرين. التظاهر لم يعد يكفي. قررت أن أنتمي للفريق الطبي المؤلف من ممرضين مبتدئين تطوعوا للمساعدة على إسعاف وإنقاذ المصابين والجرحى. تدرّبت مع فنّي تخدير على العمل الطبي. بدأت نشاطي في حي الخالدية حيث كنت أقطن، وذلك لحاجتهم الماسة للمسعفين. المشافي لا تستقبل المصابين، الأطباء لايجرؤون على اتخاذ موقف خوفاً من اتهامهم بإسعاف الارهابيين.
كان يومي الأول يوم الجمعة عقب المظاهرة بعد أن أطلقت قوات الأمن الرصاص الحي على المتظاهرين. سقط حينها عدد كبير من الضحايا بين شهيد وجريح. نقلوا الضحايا إلى منزل أحد المدنيين الذي لم يكن مجهزاً بأي تجهيزات، فقط حقيبة طبية حملها فني التخدير أبو رامي على ظهره. وقفت مذهولة من هول المشهد، فالشبان المراهقين يصرخون من الألم والشيوخ يئنون أما الرجال فيعضون على ثيابهم ليحتملوا الألم.
في بادئ الأمر وقفت جانباً، ودعوت لهم وأنا اضع يدي على فمي، ثم أقبلت على الجرحى ومسحت الدماء بلطف، وقمت بتحضير بعض أبر الالتهاب. لم أكن أتقن أكثر من ذلك. أدركت حاجتي للتعلم بشكل أكبر ووقت أقصر. من المواقف المضحكة التي حدثت معي في تلك الأثناء، أذكر أن أحد الشبان القائمين على الوضع الطبي قال لي: سأعرفك على أبو عبدو ليعلمك العمل الطبي.
قلت له: لا اريد ان أتعرف عليه، أريد أن تعلمني امرأة.
أجابني: بل يجب أن تتعرفي عليه.
كرّرت رفضي، فقال: اصمتي سنراه غداً.
فاستسلمت وقبلت، وحين ذهبت لرؤيته سألته في الطريق: أين أبو عبدو؟
فأجاب: هذا هو. فإذا به يشير إلى فتاة جميلة تنتظرنا. لمعت عيناي حين رأيتها وتيقنت فعلا أن دور المرأة في الثورة لا يقل أهمية عن الرجل، لا بل وفي بعض الأحيان يفوقه أهمية.
موقف محرج آخر مررنا به، أنا ومعلمتي أم عبدو المعالجة الفيزيائية، عندما ذهبنا إلى منزل أحد المصابين الذي كان يقيم في موقع خطير جداً، مقابل حاجز ومطل على قناص في شارع القاهرة الذي سمي بشارع الموت. مشينا في الشارع الذي كان خالياً تماماً. بدأنا بالدعاء لتيسير أمرنا، وضعنا العدة الجراحية في كيس هدايا ورقي جميل لونه أحمر مزين بالقلوب والورود. ارتديت ملابس جميلة أنيقة، شبكت يدي بيد صديقتي، وسرنا نتمايل في الطريق بهدف التضليل. وأخيرا وصلنا ودخلنا لرؤية المصاب وإذ به في حالة سيئة جداً. أزيلت بعض القطب الجراحية من بطنه، أرادت صديقتي إعادة خياطتها لكنها لم تكن قد أحضرت الخيوط الطبية الجراحية، فاضطررت لأن أخرج مرة أخرى لأجلبها، ولكن هذه المرة لوحدي. وفعلا ذهبت للنقطة الطبية وجلبت ما ينقصنا من مواد وخيوط وضعتها في ملابسي وجئت أسير بخطى باردة حتى وصلت برحمة من الله. أعطيتها الخيوط وقامت بعملها وانا أنظر إليها وأساعدها لأكتسب الخبرة.
بعد أن انتهينا آن أوان الخروج، للمرة الرابعة سأراهم، عناصر القوى التابعة للنظام، تساءلت ماذا سيحدث. هل سيقولون لي “تعالي” للتحقيق معي؟ وعدنا للدعاء وقراءة بعض آيات القرءان، فلا منجّي منهم إلا الله. خرجنا من المنزل مثلما أتينا يدي بيدها، وانا أضحك هذه المرة، ليس كي أبعد الشبهات عنا لكن على جرأتنا وعدم اكتراثنا بالاعتقال أو الموت. خصوصا بعد أن قالت لي صديقتي أن هناك جريحاً يجب أن أراه لكن بيته في مكان خطير.
سألتني: هل انت مستعدة لنموت معا؟
أجبتها “أنا اللي بموت”.
هكذا تابعت تدريبي، وأجدت الاسعاف إلى أن حصلت أول مجزرة في الخالدية، بعيد الساعة 11:00 بقليل. قصفت المدفعية التابعة لقوات النظام الحي للمرة الأولى. أدى القصف إلى سقوط ما يقارب 100 قتيل و200 جريح. فتح أهل الحي جامع الايمان ووضعوا الجرحى فيه، لعدم قدرة أي منزل أو نقطة طبية على استيعاب هذا العدد الهائل من المصابين. قفت مذهولة، تسمرت في مكاني وأنا أنظر. لا أعرف من أين أبدأ.
أذكر أحد الممرضين يسحبني وهو يصرخ “سيما افتحي وريد لهذا”.
حينها ذهب الذهول وبدأ العمل. بدأت أخيط جروح هذا وأفحص رئة ذاك وأجبر قدم الآخر…
بعد أن انتهينا جاء أخي عانقني وبكى. عانقته دون أن أبكي، كنت أشبه ما يكون في حلم.
في صباح اليوم التالي كان الحي في مأتم. كل شيء أعلن الحداد حتى الجو كان مغبرا والغيوم رمادية تملأ السماء، أعطت النهار لوناً قاتماً حزيناً، وكأنها أعلنت الحداد معنا.
بعد عدة أيام، بينما كنا نسترجع ما حدث أنا وأعضاء الكادر الطبي، فإذا بطبيب يقول “سيما أعطتني القوة، كنت كلما أنظر إليها أجدها متماسكة لا تبكي. تذهب من جريح لآخر فأزداد قوة. بينما أنظر لبعض الشباب يبكون فأتجاهلهم وأتابع عملي”.
بعد هذا الموقف ازدادت ثقتي بنفسي. شعرت ببعض الرضى عما قمت به، وازددت اصراراً على متابعة هذا العمل الإنساني، وأيقنت محبة الله لي لأنه وضعني أمام هذه المسؤولية “هذا فضل الله يؤتيه من يشاء”.
سيما الخالدي (28 عاماً) من حمص، كانت تدرس اللغة الانكليزية وتعمل كمعلمة. عند بداية الثورة تركت العمل والدراسة لتتفرغ بشكل كامل لدعم الثورة، حيث تعرضت على أثرها للاعتقال من قبل قوات النظام. ما زالت سيما في حمص تقدم ما بوسعها لدعم المحاصرين. توفي والدها دون أن تراه.
بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي