هل تفرض الثورة الحجاب؟
تعمل ميّ (28 عاماً) مدرِّبة على إدارة المشاريع في مؤسسة ثقافية أهلية معارضة في الغوطة الشرقية، وهي من دمشق. لا تخرج ميّ إلى الشارع دون أن ترتدي وشاحاً يغطي رأسها وقميصاً يصل إلى ركبتيها. اختيارها هذا اللباس المحافظ لم يكن بملء إرادتها، بل حصل بعد أن تعرّضت للتهديد أثناء مرورها في الشارع في حزيران / يونيو.
مرّ رجلان ملتحيان، كبيرا السن، يركبان دراجة ناريّة، وخاطبها أحدهما دون النظر في وجهها” :لا أريد أن أراك هكذا مرة أخرى!”. استفسرت مي باستغراب عن هوية ذلك الشخص، إلا أنه تجاهل سؤالها وأعاد ما قاله، ثم ختم حديثه بالتهديد، قائلاً: “سأدوسك بقدمي إن رأيتك هكذا”. فهمت مي أنّ “هكذا” تعني “من دون حجاب”، وانصاعت للتهديد، دون أن تتمكن من التعرف على هوية الرجلين.
هذه الحادثة هي نموذج للجو العام الذي أصبح سائداً في بلدات غوطة دمشق الشرقية، مثل دوما، كفربطنا، عربين، عين ترما، جسرين، سقبا، حمورية، مسرابا، والمليحة منذ بداية هذا العام. وتسيطر على الغوطة الشرقية العديد من المجموعات التي تقاتل تحت اسم “الجيش الحر” مثل “لواء مغاوير الغوطة” و”لواء عبد الله بن سلام” و”لواء تحرير الشام”، إلى جانب “لواء الإسلام” و”جبهة النصرة”، وهما الأكثر سيطرة على المنطقة. فرض الحجاب ليس قانوناً مكتوباً، بل توصي به الهيئات الشرعية في بلدات الغوطة الشرقية “احتراماً لعادات المنطقة ورغبة منها بتطبيق أحكام الشريعة”، حسب تصريح أحد أعضاء الشرطة التابعة للهيئة الشرعية، التي تتبع لها جسرين وكفربطنا وسقبا وعين ترما وحمورية.
ماهر، وهو مقاتل في “الجيش الحر” من قرية العبادة في الغوطة الشرقية، يرى أن الحجاب فرض إسلامي، ويجب تطبيقه. ويقول: “نحن نطبق شرع رب العالمين، وشرع الله لا يغضب أحداً”. ولم تُعرف حالات عقوبات نُفذت بحق نساء غير محجبات حتى الآن.
هذا الموقف الذي تعرضت له مي لم يكن الأول من نوعه. فقد تعرضت الشابة مرات عديدة للتوقيف في شوارع المدينة حيث تعيش أو في بلدات مجاورة عندما كانت غير محجبة أو عندما كانت تضع وشاحا على رأسها. فقد سبق لرجال شرطة تابعين للهيئة الشرعية في جسرين أن سألوها عن هويتها وعملها وسبب تواجدها في المنطقة. أحد الرجال الذين قاموا بتوقيف مي هو أبو علي، من الهيئة الشرعية في منطقة جسرين في وسط الغوطة الشرقية. رأى أبو علي في عدم ارتداء مي الحجاب دليلاً على أنها غريبة عن المنطقة، الأمر الذي حفزه للتأكد من هويتها، حسب قوله: “هناك نساء علويات يأتين إلى الغوطة ويرمين شرائح الكترونية، ترشد الطائرات إلى حيث يجب أن ترمي الصواريخ، لذا على الهيئة الشرعية أن تتأكد من هوية الغرباء”. ويضيف العضو في شرطة الهيئة الشرعية قائلاً: “ليس لدينا مشكلة مع الناشطات غير المحجبات، لكننا نخاف عليهن من الكتائب المتشددة، لذلك نوصي بالحجاب”.
زينة أيضاً تعرضت إلى مضايقات بسبب عدم ارتدائها الحجاب. الشابة، ذات التوجه اليساري، تنشط في المجال الإغاثي في بلدات الغوطة الشرقية، ترفض ارتداء الحجاب، رغم الملاحظات المستمرة التي تنتقد كونها “سبور”. ترى زينة أن تبرير أبو علي غير مقنع بتاتاً: “فمن يريد القيام بعمل للنظام في مناطق المعارضة، سيسعى للتشابه مع سكان المنطقة ، وليس العكس، كما يبرر من يريد للنساء أن يضعن الحجاب”.
تعتقد زينة أن ما يقف وراء هذا القانون الذي يحاول البعض فرضه بالقوة، هو الفهم الخاطئ للدين الإسلامي والتشدد في تطبيق أحكام وضعت لغايات لا يعيها البعض، وتضيف قائلة: “أقف بشدة مع حق المرأة في تقرير الشكل الذي تظهر به للناس بنفسها، حجاباً كان أم غير ذلك، لا أن يفرض أي أحد لباساً على أحد”.
ويشير أبو ياسين، عضو تجمع ثوري في ريف دمشق، إلى اتفاقه مع زينة جزئياً في قراءة هذه الظاهرة، التي تلقى تأييداً من طرف الكثير من سكان الغوطة الشرقية. ويقول أبو ياسين إن ابتعاد معظم أهل الريف عن التعليم، وانصرافهم للأعمال الحرفية، أدى إلى انغلاق فكري لا يقبل الاختلاف.
عزة، التي تعمل صحفية حرة لقنوات سورية معارضة، وتقطن في دمشق، ترتدي الحجاب كلما ذهبت إلى الريف، ولا ترى في الأمر مشكلة البتة. تقول عزة: “المشكلة لدى الناس في ريف دمشق، في عدم وجود المال والحصار المستمر من قبل الجيش النظامي. الضغط على الإنسان كبير جداً، ولا يجب أن نأتي ونحاسب الناس على ردة فعل طبيعية على الظروف الصعبة التي يمرون بها، بل يجب أن نفهم ما يمرون به”.
في بداية حركة الاحتجاجات ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد في بلدات ريف دمشق، كانت الفتيات والنساء غير المحجبات يشتركن في المظاهرات جنباً إلى جنب مع متظاهرات يرتدين أنماطاً مختلفة من اللباس الإسلامي: معطف يصل إلى مستوى الركبة يعرف بالـ”مانطو” وخمار أسود، أو سروال وحجاب ملون و”بلوزة”. مي وعزة وزينة شاركن في مظاهرات عديدة في سقبا ودوما وزملكا دون أن يواجهن أي اعتراض أو تحرش. لكنهن اليوم يُطالَبن بوضع الحجاب.
عزة، والكثير من النشطاء العلمانيين، متأكدون من أن ظاهرة فرض الحجاب وغيرها من مظاهر التشدد الديني، كالمطالبة بتطبيق الحدود الإسلامية، لن تبقى بعد رحيل النظام. فالمجتمع السوري و”الإسلام الشامي” معروف ببساطته ووسطيته ولم يكن متطرفاً يوماً، حسب اقتناع زينة.
لكن مي تتخذ موقفاً مختلفاً وترى أنه لا بد من أشخاص يعملون على مقاومة التطرف الديني في طور مبكر لئلا تتحول هذه المظاهر لقواعد اجتماعية دائمة. وتشارك مي حالياً مع أصدقائها في تنظيم حملة اجتماعية بعنوان “لا إكراه في الدين” موجهة للمتشددين دينياً في عدد من بلدات الغوطة الشرقية. وسيتم رسم غرافيتي على بعض جدران مدن الغوطة الشرقية بالإضافة إلى توزيع بروشورات وتنظيم جلسات حوار بين أطراف مختلفة وتقول مي: “المتطرفون بالنهاية ليسوا اشخاصاً سيئين، هم أشخاص تفاعلوا مع واقعهم بأدواتهم البسيطة، مارسوا غرائز بقائهم بهذه الطريقة وهي وإن كانت سيئة ومتطرفة، إلا أن على المثقف التعامل معها واحتواءها، فهو من يمتلك الوعي اللازم لذلك”.
وتبدي مي قلقها من قلة عدد الناشطين غير المتدينين في الغوطة الشرقية الذين ينشطون ضد التطرف وتضيف قائلة: “لو تواجد عدد كبير من الناشطين المدنيين بين الناس، لما وصلنا إلى هنا، ولما كانت مهمتنا بهذه الصعوبة. وربما كان أصعب ما فيها، هو الوعي بالمتغيرات الاجتماعية الكبيرة والقاسية، وفهمها، وإيجاد الطريقة المناسبة للتعامل معها. فكل طريقة محفوفة بمخاطر مختلفة، تتراوح بين القتل كأسوأ ما قد يحدث، أو فشل التأثير على أقل التقديرات”.