نزوحي الأول مع انتظار التحرير

استيقظت صباح يوم الاحد 15 تموز/يوليو 2012، وكعادتي كل صباح جلست أستطلع آخر أخبار الثورة والتظاهرات. كان يوم عيد ميلادي وقد امتلأ حائط الفيس بوك خاصتي بمنشورات المعايدات من أصدقاء أعرفهم وآخرين لا أعرفهم كنت أتابعها وأقوم بالرد عليها. يومها وصلتني رسالة من أحد الأصدقاء على قائمة الدردشة، يخبرني بها أنّ رتلاً من جيش النظام يبعد نحو 5 كيلومترات متجهاً إلى مدينتنا.

قفزت مسرعةً لأخبر أهلي بهذا النبأ الذي صدمنا جميعاً، وبدأنا نوضّب بعض الحاجات الضرورية لنخلي المنزل بأقصى سرعة، فالمعركة باتت وشيكة، ومن الضروري إخلاء منزلنا الذي يقع عند مدخل المدينة من جهة الرتل القادم. وبسرعة قصوى هرعنا إلى سيارتنا الصغيرة التي ازدحمت بنا، كنا ثمانية أشخاص.

“أين المفر؟” لم نكن قد وضعنا خطة لهذه المفاجأة بعد. لم يخطر ببالنا سوى التوجه لوسط المدينة حيث يقع منزل أختي، فهي أيام قليلة وتهدأ الظروف ونعود إلى منزلنا، دونما تخمين ما اذ كانت مدينتنا ستقع تحت سيطرة جيش النظام أم أنّ الجيش الحر الذي كان في أول تكوينه وبمعداته البسيطة سينجح بالتصدي للسابق والصمود. في طريقتا شاهدنا عناصر الجيش الحر منتشرين في كل مكان، دخان الإطارات المطاطية المشتعلة في الشوارع ومفارق الطرق، ملأ سماء المدينة كحركة تمويهية لتضليل الطيران الحربي الذي حلّق في سمائنا للمراقبة وحماية الرتل القادم.

وصلنا بصعوبة رغم قصر المسافة. ساعتان وبلغ الجيش مشارف المدينة وبدأت المعركة، كنت أخرج كل حين الى الشرفة، ألتقط شبكة الانترنت بصعوبة من هاتفي الذكي، وأتابع أخبار المعركة. غير آبهة بأصوات الرصاصات التي كنت أسمعها تمر قريبة مني، وضربات قذائف الدبابات على المدينة.

استطاع الجيش في أول يوم السيطرة على الحي الذي أسكن فيه. ومع حلول الليل هدأت المعركة وبدأت عمليات التفتيش والاعتقالات هناك. لم ننم ليلتها لأن الأنباء غير مطمئنة. عند الصباح، اتصلت بنا إحدى جاراتنا تخبرنا أن بعض عناصر الجيش قد اقتحموا منزلنا وفتشوه، تذكرت لحظتها العلم .. لقد نسيت علم الثورة الذي خاطته أمي. كنت أحمله في أثناء مشاركتي مظاهرات يوم الجمعة. حتى أني قد نسيت النقود التي كنت أخبئها بين كتبي. قالت لنا الجارة أنها ذهبت إلى منزلنا بعد أن خرج منه عناصر الجيش تاركين خلفهم الباب مفتوحاً على مصراعيه، ووجدته مقلوباً رأساً على عقب.

أمرأة تحمل سيروم وتهرب بعد سقوط برميل متفجر بالقرب من منزلها في حلب. تصوير: براء الحلبي

مرت ثلاثة أيام حتى أعلن الجيش الحر انسحابه، فقد نفذت الذخيرة واستشهد البعض من عناصره ولا جدوى من المقاومة أكثر، وأنهم عائدون خلال أيام قليلة ريثما يستجمعوا العدة والعتاد.

ساد الهدوء، فقررنا أنا وأمي وأختي الذهاب سيراً على الأقدام إلى المنزل كي نتفقد أحواله، ونأتي ببعض الأغراض المهمة والعودة سريعاً. خرجنا على الفور، كان عناصر الجيش منتشرين مع دباباتهم في كل مكان. وصلنا عند أحد المفارق، فاستوقفنا أحدهم وبدأ يسألنا “إلى أين أنتم ذاهبون؟ ولماذا؟” أبلغناه أننا ذاهبون إلى منزلنا لجلب الدواء لأبي المريض. قال: “اذهبوا، وكونوا حذرين من الإرهابي،ن فهم ما زلوا متواجدين في المدينة ويقتلون المدنيين”. تابعنا المسير مسرعين، كنا نتنقل بين مداخل الأبنية خوفاً من القناصة المنتشرة على الاسطح. كانت رائحة الموت تفوح من كل مكان. آثار قصف الدبابات هنا وهناك. أكثر ما آلمني آنذاك كان منظر مئذنة الجامع المهدمة. لقد قصفوا الجامع الذي كانت تخرج منه المظاهرات كل يوم جمعة.

شعرت بالغربة وأنا أمشي لما آلت اليه حال مدينتي. كان قلبي يمتلئ غضباً وسخطاً مع كل خطوة. وصلنا المنزل، كانت الفوضى في كل مكان لم يتركوا شيئاً في المنزل على حاله. حتى شاشات التلفاز والحاسب كسروها. وجدت العلم الذي نسيته، كانوا قد أحرقوه في المطبخ مع بعض الملابس. كان لغرفتي الحصة الأكبر من التفتيش العشوائي والتخريب. كل أشيائي كانت مبعثرة على الأرض، بسبب العلم الذي كنت أعلقه على حائط غرفتي ولافتات ثورية مخبأة في خزانتي. تركنا كل شيء على حاله، أخذنا أٌغراضنا المهمة التي نسيناها لحظة خروجنا وعدنا على وقع ضربات القناصة. بقينا أياماً عدة ننتظر عودة الجيش الحر، حتى مللنا الانتظار والنزوح، وبقينا تحت سيطرة جيش النظام شهوراً طويلة.