نجت قطة محمد لكنه لم ينجُ
كنت أعمل في المجال الإغاثي في مدينة حرستا. في شباط/فبراير 2014 ، قررت أن أقوم بخطوة جريئة نوعاً ما. تأسيس مطبخ خاص بالمدنيين فقط، أي يقدم الطعام للمدنيين الذين أعتقد أنهم الشريحة الأكثر عرضةً للفقر والجوع.
في آذار/مارس نقلت مطبخي المتواضع جداً إلى مزرعة صغيرة، مكونة من غرفتين وفسحة سماوية. المشرف على المزرعة يُدعى أبو صطيف الحموي، رجل في الأربعينيات من عمره، بمنتهى اللطف والبساطة. كان من أولئك الأشخاص الذين لم يفقدوا بعد صدقهم وطيبتهم رغم كل ظروف الحرب الطاحنة.
أبو صطيف كان يصطحب معه ابنه الأصغر محمد، يبلغ من العمر سبعة أعوام. طفلٌ لطيف، بريء، قليل الكلام، كثير الابتسام. تحسبه ملاكاً يمشي على الأرض، ولم أكن أدري أن محمد يحبني كما أحببته إلا بعد فوات الأوان.
يوم الجمعة 24 نيسان/أبريل 2015، كنا نجهز الطعام لذوي الشهداء الذين قضوا في قصف مدينة حرستا يوم 22 نيسان/أبريل. وكان محمد يساعدنا في تغليف الصحون الكرتونية، رفعناه إلى شاحنتنا الصغيرة كي يرتب الصحون داخلها. كان سعيداً لأننا اخترناه لهذه المهمة، أنجزها بكل فخر قبل أن ينزل من الشاحنة ويعود إلى والده.
قصدنا وجهتنا، لم نغب سوى ساعة ونصف الساعة، عدنا لنجد بركة من الدماء بجانب المزرعة. هرعنا إلى الداخل وإذ أبو صطيف يبكي بألم وحرقة. قال أنهم خرجوا إثر صوت انفجار صغير ليجدوا محمد مغطى بالدماء، اصطحبنا ابو صطيف واتجهنا إلى النقطة الطبية في حرستا، حيث كانت سيارة الإسعاف قد نقلت محمد إلى هناك. أخبرونا أنهم نقلوه إلى دوما لأن حالته خطيرة. ذهبنا إلى المشفى في دوما وكانوا يجرون له عملية جراحية. خرج الطبيب بعد ساعتين ليخبرنا أن محمد قد فقد عينيه وبُترت يديه ورجليه وأن وضعه حرج جداً.
لم تكن أمه معنا، فنحن لم نخبرها بما حصل. كانت تظن أن محمد ما زال يلهو في المزرعة. نظرت إلى أبو صطيف، كانت عيناه عبارة عن بركتي دم، لم يتفوه إلّا بكلمات الرضا بما كتبه الله.
عدنا أدراجنا دون محمد، تركناه في المشفى. رجوت الأب أن يترفق بزوجته حين يخبرها، وهذا ما فعله. لم يخبرها عن مدى الاصابة، أصرت على اصطحابها إليه، لكنه تذرع بأنهم لن يسمحوا بزيارته ليلاً.
ومر اليوم الثاني ثقيلاً ونحن ننتظر المصير المحتوم، كان واضحاً أن محمد الصغير لن يصمد، وأنه سيفقد روحه الطاهرة كما فقد بقية أطرافه. وبقي أبو صطيف مصراً أن لا ترى الأم ابنها، فقد كان منظره يُبكي الحجر، فكيف بأمه!
بقي محمد ثلاثة أيام موصولاً إلى جهاز التنفس الاصطناعي، وبعدها فارق الحياة. دفنوه في حرستا ولم تره الأم. قررنا أن رؤيته ستزيد من حجم الألم، لأنها لن تنسى منظره ما تبقى من عمرها.
لم أستطع الذهاب إلى عزاء السيدات، أحسست أنني بحاجة إلى من يعزيني، ولكني تمالكت نفسي بعد ثلاثة أيام، عندما رأتني أم محمد أسندت رأسها إلى صدري، وفهمت من خلال نحيبها أن محمد أحبني جداً. قال لها أريد الذهاب لمساعدة أم سميح فأنا أحبها وأريد البقاء معها، حتى هذه اللحظة أشعر بالذنب، ليته ما أحبني.
عندما زرت قبر محمد وجدت باقة صغيرة جداً من الورد الملون قطفها أحد أصدقائه، وورقة كُتب عليها حب إلى الأبد من صديق يُدعى بلال نجيب.
تكهن البعض أن صوت الانفجار الذي أودى بحياة محمد كان قذيفة. نجت قطة محمد من الانفجار لكنها أصيبت ببعض الشظايا في ساقها. كان الوحيد الذي يطعمها ويعتني بها وكانت لا تظهر إلا بوجوده .
نحن في الغوطة الشرقية المحاصرة لم نعتد على الموت كما يزعم البعض، من نفقدهم لا يمكن أن يُعوضوا، وسيتركون أثراً حزيناً لن يزول.
أحياناً أفكر أن فرحتنا بالخلاص لن تكون كاملة أبداً، من أردت أن يشاركوني فرحتي رحلوا. كل يومٍ نفقد بعضاً منا، هذا البعض فقدناه للأبد وكنا نظن أنه سيرافقنا، لكن بدلاً من رفقة الأحباء سيبقى الألم شريكنا مهما حاولنا تجاهله والتحايل عليه. هناك جروح لا تندمل، تلك هي جروح الروح.