من مُدرِّسة إلى مطلوبة لفرع المخابرات!
نساء يتعلمن القراءة والكتابة في إحدى دورات محمو الأمية في ريف إدلب- تصوير معهد صحافة الحرب والسلام
"حين دخلتُ إلى غرفة الموظف كي أحصل على راتبي كمدرّسة، هزَّ برأسه وقالَ "
“تلقيتُ تعليمي في مدارس بلدتي وتنقّلت من مرحلة دراسية إلى أخرى وأنا أشعر بشغفٍ خلال رحلة التعليم، كي أصل في نهاية المشوار وأُحقق حلمي بالحصول على وظيفة ومرتّبٍ شهري، فأكون مسؤولةً في مجتمعي ولدى أُسرتي، وأُحقّق لأولادي في المستقبل ما يطلبونه… لكنَّ هذا الحلم البسيط قد ضاع…”
إنها حكاية غفران كما روتها لنا.
حصلتُ على الشهادة الثانوية في العام 1999، وكم كنتُ سعيدةً في حينها لأني كلما جلستُ مع زميلاتي في المدرسة كنتُ أخبرهن عن حلمي بأن أكون مدرِّسة أُعطي طلابي القيم والأخلاق وأني سأكون عطوفةً عليهم… كان ذلك في جلسات البوح بالأحلام… لكن هيهات…
بعدَ عناءٍ طويل وسهر الليالي، نلت الشهادة الجامعية في العام 2005 من جامعة حلب، والتي تخوّلني التقدّم لمسابقة مديرية التربية في محافظتي إدلب كي أنضم إلى سلك التعليم…
وبالفعل، حصلتُ على الوظيفة وكانت سعادتي لا توصَف، إبيضَت الحياة بعينَي وانتابني شعور بالفخر والفرح بطريقة لا توصَف!
تزوّجتُ بعد تحقيق حلمي المهني، وها قد صارَ عندي أربعة أولاد… أسرتي جميلة متماسكة، يحب أفرادها بعضهم البعض، ويحترمون بعضهم، مع أنَّ حياتنا متواضعة ونعيش في غرفةٍ واحدة وتوابعها…
السعادة كانت عنوان حياتي المتواضعة، فأنا سيدة مستقلة لي دخلي الشهري ومكانتي في التعليم… وأُحب وظيفتي…
إلى أن حلّ يوم 15 آذار/مارس 2011، وبدأت تتغيّر حياتي مع بداية الثورة في سوريا…
بدأت المظاهرات في بلدتي في ريف إدلب وفي البلدات المجاورة وبدأت قوافل الشهداء تعود إلى البلدة محمّلةً بعدما تكون قد سقطت في المظاهرات ضد النظام على يدِ رجال الأمن… وكان الوضع يوماً بعدَ يوم يزدادُ سوءاً…..
كنتُ أتقاضى راتبي من موظف يُقال عنهُ “معتمَد الرواتب” وذلك في البلدة، فيوزّع رواتب موظفي الدولة… ثمَّ بعدَ ذلك تمَّ تحويل الرواتب إلى مدينة إدلب!
صارَ الهم ينتابني بداية كل شهر. علي أن أقطع مسافة طويلة وسط الظروف الأمنية الصعبة والحواجز المنتشرة على الطرقات… والهَم صارَ يتحوّل لخوفٍ ورعبٍ، خاصة بعدما سمعنا ما سمعناه عن حوادث اعتقال لمواطنين على الحواجز…
تحررّت بلدتي مع البلدات المجاورة في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2012، وصارت تحت سيطرة المعارضة… ثمّ تحررت مدينة إدلب بالكامل في وقتٍ لاحق في 28 شباط/فبراير 2015…
وهنا بدأت المعاناة الأكبر! تمَّ نقل الراتب إلى مدينة حماة، وذلك بعد انقطاعه لمدّة شهرين!
أصبح علينا الذهاب إلى حماة لتقاضي أجورنا كمدّرسين، وحصلتُ على راتبي في حماة لأكثر من مرة وقد مرَّ الأمر على خير…
إلى أن جاءَ يوم 15 آب/أغسطس 2015!
ذهبتُ مع زميلاتي وزملائي إلى حماة لنتقاضى راتب الشهر، وحين وصلنا إليها شعرتُ لأوَّلِ مرة بغربةٍ كبيرة، وكأنني لستُ في بلدي… ذلك نتيجة لكثرة حواجز الجيش وثكناته المنتشرة هنا وهناك، ولانتشار عناصره ورجال الأمن والشبّيحة…
كانوا يملأون الساحات بطريقةٍ مقززةٍ… كانت نظراتهم إلينا غريبة، ونحنُ السيدات بشكلٍ خاص كنا نخشى من نظراتهم! كل ذلك لأننا من إدلب، المدينة المغضوب عليها لأنها أمست تحت سيطرة المعارضة!
وصلنا إلى مبنى مديرية التربية في حماة وهناك كانت المفاجأة بالنسبة لي، فـحين دخلتُ إلى غرفة الموظف كي أحصل على راتبي كمدرّسة، هزَّ برأسه وقالَ لي: “راجعي فرع الأمن السياسي!”
صدمني بكلامه، وقد قالَ لي: “اخرجي قبل أن يأتي رجال الأمن!”
لم أعرف ماذا يعني ذلك، هل تمَّ فصلي أم أنني مطلوبة فعلاً؟!
في كل الأحوال، هل أنا مجنونة كي أذهب وأُراجع فرع الأمن السياسي؟ فهذا يعني أنني أُسلّم نفسي!
عليَّ أن أكتفي بحرماني من وظيفتي… هذا كل ما في الأمر حتى اللحظة…
على الطريق، لم أُخبر زملائي بما حصلَ معي كي لا يخشون مرافقتي أو أٌفشي سرِّي الأمني! وعدنا جميعاً في ذات السيارة وقد ظنّوا بأنّي تقاضيتُ راتبي مثلهم…
توقفت السيارة قليلاً ورأيتُ فتاةً تبكي أمام الحاجز، ويبدو أنهم يقومون بسوقها للإعتقال، لكني لم أعرف بعد ذلك ما الذي حصل معها بعدما مشت السيارة… خفتُ كثيراً وخشيتُ من اعتقالي… لكنّ الحاجز لم يعتقلني…
كل ما الأمر كما قلت، أنني خسرتُ وظيفتي… هل من أجل رأيي السياسي، كتبوا بي تقريراً كما يفعلون عادةً المخبرون وأعوان النظام؟!
يحزُّ في نفسي أني لا أقوم بممارسة مهنتي في التعليم، على أمل أن يحصل ذلك بعد رحيل بشار الأسد ونبني سوريا من جديد.
بهذه الكلمات أنهت غفران حديثها، هي التي قطعت شوطاً كبيراً من التعليم والعمل. تُذكّرني بقصتي التي لم تكتمل، وهي حلمي بإكمال تعليمي بعدما حرمتني الحرب من ذلك…
الحرب حرمتنا الكثير…
دارين الخالد (29 عاماً) متزوجة وتُقيم في ريف إدلب. كانت تدرس في كلية الحقوق في السنة الثالثة لكنها تركت الدراسة بسبب الحرب.