من سيشعلها من جديد؟

أوجعني يوم وفاته. انطفأ حب الحياة، كان برفقة كل أنواع الألم يهون ويذهب. بصحبته فقط كنت أشعر أن الأمل موجود وكل صعب سيزول ويمضي. ذهب مع كل جميل في عالمي الصغير القاسي كما ذهب من قبله شارعي بيتي ومدينتي.

أبي مات، مات، استمريت بتكرارها عشرات المرات.  لم يكن باستطاعتي استيعابها. نصف ساعة كانت كفيلة بذهابه لذلك العالم الغريب عني. ذهب من دوني، تركني مرمية من حوله، أحاول قدر الإمكان إسعافه من دون جدوى. روحه تصعد بسرعة، وعيناه تنظران للأعلى. تلك العينان البنيتان الجميلتان، للمرةِ الأولى أدرك مدى جمالهما.

مات على أريكة مهترئة متعبة، من دون همسة واحده منه لتوديعي. فآخر لحظات حياته، ابتسامة ساحرة أنهت كل سنين حياته، كأنها غمضة عين.

7 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، يوم وفاته لن يمحى من ذاكرتي لمدى الحياة. لم تمضِ سوى أيام قليلة على وفاته حتى سقطت قذائف هاون مصدرها على الأغلب شرقي دمشق الخاضع معظمه لسيطرة الجيش الحر، والتي من المفترض أن تستهدف حاجز لقوات الأسد على شارع الجسر الأبيض، الواقع في وسط العاصمة السورية دمشق، ولكنها هوت بالقرب من منزلنا، والذي لا يبعد سوى بضع خطوات من سوق الجسر الخاص لبيع الملابس والذي يعج بالمارة والمشترين.

سيدة تمشي أمام محل صوف في حي الفردوس في حلب. تصوير حسام كويفاتية

أمي ترتدي ثيابها على عجل للاحتماء بالطوابق المنخفضة، وتلح علي بالإسراع للحاق بها. صراخ النساء والأطفال يصم الآذان. سحابة كبيرة من الدخان والغبار تحيط بنا. تعلقت عيناي أمام نافذة أرقب ذلك المنظر المرعب، أجساد مرمية هنا وهناك مضرجة بالدماء، ورجال يسعفون نساء. عاد الموت ليحصد أرواحاً جديدة بطريقة مختلفة عن موت أبي.

كلما نزلنا طابقاً أصبحت أصوات البكاء أقرب. العديد من النساء يقفن في نهاية مدخل البناء يبكين، غطّت ثيابهنَّ الأتربة. إحداهن جرحت في جبينها، كلما حاولنا أن نهدئهن وقعت قذيفة أخرى ليعاودن البكاء والصراخ من جديد. كان هذا الأمر بالنسبة لي عادياً جداً، لأنني من النازحين من الغوطة الشرقية لمدينة دمشق. مرّت علينا ظروف أصعب من ذلك بكثير.  أنظر إلى حالهن وأقول لنفسي ماذا قد يحدث لهن لو أن طائرة هي من تقصف وتلقي البراميل المتفجرة، أو تقصف بالرشاشات والصواريخ الفراغية عوضاً عن هذه القذائف. كيف سيصبح حالهن؟  في الغوطة مجرد سماع صوت الطائرة أمر مخيف، فكيف الحال إن قصفت بالقرب من موقعنا، ذلك شعور من الصعب وصفه بالكلمات، ولا يشعر به سوى من تعرض له. أمضينا ذلك اليوم بمعظمه في الملجأ، حتى انتهى الموت من عمله. بصعودنا لمنزلنا الهادئ المتسخ، انتشرت قوات النظام، وأغلقت جميع المنافذ. حينها تأكدنا بأنها ليلة هادئة. يسود اعتقاد أن النظام هو من يلقي بالقذائف على الأحياء السكنية لكي يزيد كره الأهالي للجيش الحر.

انفضت تجمعات قوات الأمن، حينها خرج الناس من بيوتهم ليستطلعوا ما حدث من دمار في الحي. كانت الساعة التاسعة ليلاً، بقيَ أهالي الحي طوال الليل مستيقظين، جافاهم النوم، ولا سيما أصحاب المحلات التي تضررت، فقد ظلوا طوال الليل وهم يحاولون إعادة ما دمرتهُ القذائف وإصلاح ما يمكن إصلاحه.

جميع  من في سوريتي قابل للموت بأيدي الجميع. نحن الضائعون بين متاهات راحتهم وبنادقهم العبثية، برغم صعوبة ذلك اليوم لكنه كان بمثابة مواساة لي. فالموت مقتولا أصعب من الطرق التقليدية، هكذا نواسي أنفسنا الضعيفة ونخدعها. فإن الموت بجنون تلك الأيدي يؤلم أكثر ويوغل بالصدر أكثر فأكثر، من الموت بذبحة قلبية.  تمضي الأيام و كلما أمشي بجانب آثار القذيفة أسرع بخطواتي. برغم اعتيادي على هذا الوضع، إلّا أن هاجس الخوف يبقى مسيطراً، وهكذا تمضي الأيام داخل دمشق. قذائف مجهولة المصدر، وحواجز قوات النظام وشبيحته منتشرين أكثر من المارة. ويبقى الموت خيارا ًوحيداً للشعب. برغم أساليبه المختلفة وألمه، يبقى هو الأرحم لتلك الأرواح التي أنهكها عالم عبثي متوحش  كانت أمنية والدي كما كانت أمنية خالي الذي سيقه إلى ذلك العالم المجهول، وقد قضى في سجون النظام أكثر من أربع وعشرين عاماً، أن يأتي يوم نعيش حياتنا بخياراتنا وبأفعالنا ليس بكلماتنا. لكن الحرب أطفأت كل أنواع الأمل في قلوبنا  فمن الذي سيعيد إشعالها  من جديد.

 

مرام سعد (24 عاماً) ولدت  في إحدى مدن الغوطة الشرقية في ريف دمشق. متطوعة في الهلال الأحمرمنذ 6 سنوات. خلال الثورة كانت متظاهرة ومسعفة ميدانية وناشطة إعلامية من العاصمة دمشق، عملت مع عدة وكالات إخبارية محلية. مرّت بأوقات صعبة خلال إسعاف المصابين أعنفها وفاة والدها بين يديها عام 2014 بعد نزوحهم إلى مدينة دمشق.