من ذاكرة السجون السورية: بانتظار مُضر الجندي

لا أعرفه؛ لم ألتقِ به في حياتي يوماً ولن افعل. مضر الجندي إسم بلا جسد في ذاكرة المعتقلات السورية. أعرف ابنته الوحيدة بغرفتها المرتبة، النظيفة والتي يسكنها الحزن بسبب فراغ موقع الأب الذي لم يمتلئ يوماً. في غرفة ابنته سنا استمعت أوّل مرة في حياتي إلى جوليا بطرس تغني “يا قصص عم تكتب أسامينا، عزمان الماضي وتمحينا…” وأعرف زوجته ذات الإبتسامة الرقيقة والجسد النحيل.
إعتقلت المخابرات العسكرية – فرع فلسطين مضر الجندي عام 1987 في إطار حملة الاعتقالات التي شنّتها ضد أفراد حزب العمل الشيوعي، والتي انتهت إلى سَجن القسم الأعظم منهم، الرجال والنساء، قضوا بعدها عدة سنوات في السجن. بعضهم ابتلع سجن صيدنايا من عمره أكثر من اثني عشر عاماً، وحتى خمسة عشر عاماً، إلاّ مضر.
توفيّ مضر الجندي بسبب أزمة ربو. تضاعفت انعكاساتها على وقع أول جولة تعذيب، كما يقول من كان معه في المعتقل. إلاّ أنّ جثته لم تُسلّم حتى تاريخه، كما لم يصدر أي اعتراف رسمي بوفاته. كل ما عُرِف عن تلك الوفاة هو الأخبار التي بقيت في ذاكرة المعتقلين الآخرين وما زالوا يروونها.
في مهاجع الإعتقال الخاصة بفرع فلسطين أعاد المعتقلون اكتشاف “شيفرة مورس” ليتبادلوا من خلالها أخبارهم، فأدرك من كان يومها في المُعتقَل أنّ كلاً من الجندي وزميله إ.د. قد اعتُقِلا، ولكن بعد يومين لم يستطيعوا التواصل مع أيّ منهما، وكأنّهما قد فُقِدا. لاحقاً حضر إليهم معتقل من فرع التحقيق العسكري أخبرهم أنّ إ.د. قد نُقِلَ إلى هناك. إعتبر البعض من زملاء مضر وإ.د. أنّ هذا الإجراء تمّ إثر وفاة مضر كي لا يتحدث إ.د. عن مضر واعتقالهما معاً، خاصة بعد أن اجتمعت مؤشرات أخرى تذهب في هذا الاتجاه. كان من أهم هذه المؤشرات أنه في فترة لاحقة، وعلى أثر التعذيب، تمّ نقل أحد المُعتقلين إلى مشفى “تشرين العسكري”، حيث التقى بمُعتقل آخر ينتمي إلى “جماعة عرفات”، أي منظمة التحرير الفلسطينية، أخبرَه أنّه في المرّة السابقة التي تمّ نقله فيها إلى المشفى من فرع فلسطين كان في السيارة التي أحضرته جثة ملفوفة ببطانية، الأمر الذي يتقاطع زمنياً مع وقت اعتقال مضر الجندي.
هل يوجد أكثر من هذا؟ لا… فقط رُكام أسئلة وحُطام سنوات. سنوات مرّت على والدة مضر وهي لا تزال على يقينها من عودته. مضر سيعود ذات مساءٍ أو ذات صباح، في يوم ماطر أو في إحدى ليالي الصيف الدمشقي الكسول. أمّا الإبنة التي لم تلتقِ والدها يوماً، فلا تزال تبحث في الأشياء والأماكن وتفاصيل حياة ترويها والدتها وبعض من رفاقه عن صورة أبٍ هو مُجرّد حلم.
هل كان يُمكن العثور على معلومات أكثر من هذه؟ هل كانت حياة مضر الجندي تهمّ من اعتقله فيخشى عليه من التعذيب؟ هل كان يُمكن أن لا يموت مُضر الجندي لو لم يكن مُصاباً بالربو أو لو كان التعذيب أقل وحشيّة؟ أو لو انتبه من يُعذّبه أنّه يُعذّب رجلاً يلفظ أنفاسه الأخيرة، يُفارق الحياة؟ هل فارق مضر الجندي الحياة فعلاً؟
بعد سنوات من الإتصالات والرجاءات، تمكّنت زوجة مضر من رؤية رئيس فرع التحقيق العسكري عام 1994 وطالبته بوثيقة تثبت وفاة زوجها. أجابها أنه يمكنه إخبارها أنّ مضر قد توفي، لتذهب وتؤسس لنفسها حياة أخرى، ولكنه لن يتمكن من إعطائها وثيقة رسمية تثبت هذه الواقعة، ولم يفعل. لم تتزوّج أميرة مرّة أخرى واكتفت بحياتها مع ابنتها وصور مضر.
تمّ اعتقال المهندس مضر الجندي مساء 20 أيلول/سبتمبر 1987 من شارع بغداد في دمشق، وعمره يومها 34 عاماً، بعد أن كان مُلاحقاً لثلاث سنوات. إن كان مضر الجندي لا يزال حيّاً، فسيكون له من العمر 59 عاماً. وإن لم يكن، فلوالدته الحق في ارتداء ملابس الحداد، وفي شاهدة قبر تغسلها صباح كل عيد. ولابنته الحق في جثمانٍ أبٍ يملأ فراغ روحها، كما لزوجته الحق في وداعٍ أخير.
كتب محمود درويش من الأرض المحتلة:
“وهذا الإسم لي
ولأصدقائي،
أينما كانوا،
ولي جسدي المؤقت
حاضراً أم غائباً
متران من هذا التراب
سيكفيان الآن…”
إننا نطالب السلطات السورية بمعرفة مصير مضر الجندي، أومنحه مترين من تراب وطنه.