من ادلب إلى ريفها رحلة بعمر كامل

المكان: طريق ادلب _ بنش. الزمان: ظهر يوم الخميس 4 تموز /يوليو 2014 . حزمت حقائبي الثقيلة وودعت زميلاتي، لكنني لم أقصد الكراج (موقف السيارات الخاص بالنقليات) الذي تنطلق منه السيارات باتجاه كفرنبل.توجهت سيراً على الأقدام نحو مدينة بنش. تزامنت خطواتي المنهكة آنذاك مع انخفاض صوت المسيرات والأغاني المؤيدة لنظام الأسد وارتفاع أصوات القصف.

كان ذلك اليوم الأخير في امتحان الفصل الثاني في الجامعة. يصادف هذا التاريخ أيضا اليوم الخامس من شهر رمضان الكريم. يومها اضطر جميع طلاب ادلب للخروج منها سيراً إلى كراج بنش، وذلك بسبب الحصار المطبق عليها من قبل الجيش الحر، كردة فعل على الاحتفالات التي جرت اثناء الانتخابات، ولمحاولة تحريرها من قوات النظام أيضا. وتقدر تلك المسافة بأربعة كيلومترات تقريبا.

عند اقترابي من آخر حاجز لجيش النظام، قطع اتصالي مع عائلتي أحد الجنود سائلاً عن الجهة التي أخابرها وإن كنت أحدد لهم موقع الحاجز، وطلب إلي أن أقفل هاتفي.

سيدة وزوجها في احدى وسائط النقل في حي الشعار.تصوير حسام كويفاتية

بعد أن دنوت منه أكثر، ودقّق  ببطاقتي الشخصية،  قال: “انتم اهل كفرنبل تؤيدون المعارضة وتريدون أن تدرسوا عندنا، والله يجب أن نسجنكم”. حينها لفت انتباهي أحد الطلاب الذي كان يتعرّض للضرب من قبل جندي آخر ليس بعيداً عنّي. كنت أسمعه يقول بصوت مرتجف: “رميتها عن غير قصد. صدّقني لم افعل هذا عمداّ”. كان الجندي يضربه ويركله،  فيما يقوم آخر  برمي اغراضه الشخصية على الأرض. علمت لاحقاً أن الشاب رمى كأس المتة الخاص بالضابط على الأرض. (المتّة خليط من الأعشاب توضع في كأس خاصة ويتم سكب الماء الساخن فوقها، وهي مشهورة في بعض المناطق السورية).

بعدما قطعنا الحاجز، بدأنا بالسير في شارع طويل يخلو من السيارات. وعندما اجتزنا حوالي نصف المسافة فوجئنا بسيارة دفع رباعي تجتاز الطريق، كانت سيارة عسكرية لونها أسود، تحمل شعار جبهة النصرة (فصيل إسلامي عسكري). أصابنا الذعر الشديد بالشلل لبعض الوقت. ظننت أن تلك السيارة مفخخة وتريد نسف حاجز النظام، الذي بدأ بإطلاق الرصاص وبشكل عشوائي. ما أدى إلى إصابة شخصين. ولم يبقَ امامنا سوى الانقسام ، بعضنا عاد إلى حاجز النظام، فيما أكمل البعض الآخر طريقه إلى حاجز الثوار. وكنت ممن أكملوا باتجاه الثوار.

وبعد مسير ساعتين متواصلتين، وصلنا أخيرا إلى سيارة النقل المتواجدة في كراجات مدينة بنش.  لم نلبث أن ارتحنا حتى سمعنا نداء عبر جهاز تواصل لاسلكي “انتباه الطيران الحربي رصد التجمع في الكراج وسوف يقصفه انتباه”. ومن ثم بدأ السائق بالصراخ لينذر الجميع: “تفرقوا بسرعة ليجلس كل شخص منكم عند شجرة ابتعدوا عن بعضكم  “. وكان مشهد تدافع الناس كل باتجاه بحثا عن شجرة أو مكان للاختباء وكأنه مقتطع من أحد الأفلام التاريخية القديمة.  اختلطت الأصوات في تلك اللحظة،  فهذا الذي يسبح ربه ويتلو بعض آيات القراّن، وآخر يصرخ قائلا: “يا الله إذا ضربت هنا سوف تحرق السيارات ونحترق نحن معها”. أحسست حينها أنني لن أرى أسرتي مجدداً، بعد غيابي عنهم لمدة شهرين.

تصاعدت أعمدة الدخان بعد ذلك، وإمتلأت عيناي بالغبار قبل أن أسمع صوت انفجار ضخم ورهيب. أدركت بعدها أن الطائرة أخطأت هدف الكراج، ولكنها أصابت مزرعة تقع بالقرب منه.  بقينا على هذه الحالة  ساعة كاملة وكنا على صوم. وأخيرا وبعد عناء شديد وصلت للمنزل، فوجئت باجتماع عائلتي وقد كانوا قلقين عليَ. وبعد السلام واستراحتي بدأت أروي لهم ما حدث معي وكأني برؤيتهم ملكت الدنيا بأكملها.

آمنة اليوسف (21 عاماً) خريجة كلية حقوق في جامعة إدلب. تعيش مع عائلتها المكونة من تسعة أشخاص في إدلب، نزحت مع أسرتها عدّة مرات خلال السنوات الأربعة الماضية، آخرها كانت إلى الحدود التركية قبل أن يعودوا مؤخرا إلى منزلهم.

بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي