من أجل هذا خرجنا…

ريما فليحان

حين رن هاتفي في ذلك اليوم من العام الماضي لم يكن قد مضى على خروجي من السجن أكثر من بضع ساعات، إذ كنت قد قضيت أربعة أيام رهن الإعتقال بعد خروجنا في مظاهرة في حي الميدان في شهر تموز من ذلك العام. لم أتعرف على الرقم، ومع هذا فقد أجبت على المكالمة وسمعت التالي: “لدي عليك دَين مؤلف من صفعات كثيرة وعدة صدمات كهربائية وجلدات لا تحصى.” إرتجفت لأنّني لم أفهم فعلاً ماذا يعني… تابع قائلاً: “أنا رأفت. هل تذكرين حين أصدرت بيان فك الحصار عن درعا، “بيان الحليب”؟ “تذكرت حينها من المتصل؛ إنه الصحفي الشاب رأفت والذي دافع عني بعد اصداري هذا البيان في نيسان/أبريل2011، أي في بداية الثورة.

يومها كتبت بياناً مؤلفاً من ثلاثة أسطر يدعو الحكومة السورية إلى فك الحصار عن درعا وإدخال المساعدات الإنسانية وحليب الإطفال إلى المحاصرين هناك. وقّع على تلك الأسطر الثلاثة 1400 سوري، بينهم كتاب وفنانون وكانت النتيجة أن قام النظام السوري مع وسائل الإعلام التابعة له بحملة تخوين بشعة استهدفتني واستهدفت خمسة من الموقعين وطالت هذه الحملة سمعتنا وكرامتنا واتهمتنا بأبشع التهم.

وفي ذروة هذه الحملة، إتصل بي الصحفي رأفت من داخل سوريا، وكان مجرد اتصاله مخاطرة تحسب له. فحينها لم يكن الجميع قد تكلم. كانت حواجز الخوف لم تهدم لدى الجميع بعد.

حين رن هاتفني يومها كنت أبكي، كنت أختنق، وكنت على وشك الإنهيار. فذلك اليوم وُجّهت إلي أقذر الكلمات وأبشع التهم، ونُشرت صوري بطريقة بشعة، كما وتحدث تلفزيون الدنيا عني بطريقة شنيعة. تأثر رأفت حين سمع صوتي وكان متحمساً جداً واخلاقياً للغاية وسألني بضعة أسئلة عن البيان وموقفي، وفي اليوم التالي نشر مقالة رائعة دافع بها عني بطريقة شجاعة ساهمت بمداواة الجراح التي سببها إعلام النظام لي.

لم يخطر لي أن أتصل برأفت لأنني كنت قد غرقت في أزمة استمرت شهراً كاملاً تضمنت حملات التخوين والإساءة المباشرة والعنيفة نتيجة تلك الأسطر الثلاثة. ولم يخطر لي أنّ تلك المقالة التي كتبها رأفت قد تسبّبت باعتقاله من قبل المخابرات وتعرضه لتعذيب بشع أنهك جسده لأشهر. خرج بعدها ليتصل بي في ذلك اليوم حين سمع باعتقالي وخروجي من السجن. ختم مكالمته يومها بالعبارة التالية:

“ريما، ليس مهماً كلّ هذا التعذيب الذي تعرضت له… المهم أنّك اكملت ثورتك ولم يتمكنوا لا من كسرك ولا إسكاتك… حين علمت باعتقالك وتظاهرك شعرت بارتياح. هذا يكفيني…”

حين أنهى المكالمة ارتجفت لساعتين… ساعتين متواصلتين. إختلطت في داخلي مشاعر التقدير والإعجاب مع مشاعر الذنب لِما أصاب رأفت، ومشاعر أخرى بالحزن العميق والحيرة بالسبب الذي يدفع النظام إلى اعتقال شاب وتعذيبه لأنه أبدى رأيه ودافع عن حقي في التعبير من خلال عمله كصحفي.

رأفت بالنسبة إلي هو بطل من أبطال الثورة. هو أيقونة ورمز للحرية التي خرج من أجلها الشعب السوري في كل مكان من سوريا، والسلوك الذي اتبعه النظام مع رأفت هو الوقود الذي يمنحنا الكثير من الإصرار للإستمرار؛ فهذه الهمجية وهذا القمع الممنهج يجب أن يزول.

ولأننا بشر، فنحن نستحق أفضل من هذا الواقع. نحن نستحق أن نصرخ بأعلى صوتنا لنطالب بغد أفضل نحققه، ولنحظى بكل الحريات؛ لنتمكن من الإختيار ككائنات عاقلة ساهمت في يوم من الأيام في تقدم الحضارة البشرية.

رأفت هو حالة تتجسد فيها روح الصحفي الحر والرجل الشجاع، وأمثاله هم من يخرجون إلى شوارع الحياة في بلدي من أجل حريتهم.

ومن أجل أمثاله سننتصر.