مقابر كفرنبل أندية تعارف وحكايات من رحلوا
كانت مسؤولية المقابر في عهد النظام تقع على عاتق مجلس المدينة، من خلال توفيرالكهرباء وصيانة الطرقات وغير ذلك, ومنذ بداية الثورة لم تتحمل أي جهة هذه المسؤولية
مصطفى الجلل
(كفرنبل – سوريا) يعلم جيداً أنه لا يوجد في قبر زوجته إلا حافظة النقود, لكن أبو ماهر لم ينقطع عن زيارة قبرها يومياً. يشعر أنها موجودة هناك بروحها, وكثيراً ما يتحدث معها وكأنها حاضرة أمامه.
قضت أم ماهر في 28 آب/أغسطس 2012 عن عمر يناهز الـ 56 عاماً. ضحية صاروخ ألقته إحدى طائرات النظام على مركز مدينة كفرنبل. لم يعثر على أي أثر من جسدها إلا حافظة النقود التي تم التعرّف عليها من خلالها ودفنت في مقبرة الشهداء.
زيارة القبور عادة قديمة، لم تكن حاضرة على هذه الدرجة ولكن مع الحرب أصبحت ظاهرة معممة. حول حكم الشرع في زيارة القبور يوضح الشيخ ظافر العيسى (49 عاماً) لموقع داماسكوس بيورو: “إن زيارة القبور سنّة أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم وفعلها, والهدف منها أن يتذكر الإنسان نهايته ومآله ومرجعه إلى القبر فيتوب ويجتهد في العمل، ويتذكر الآخرة، وأن يحسن إلى الأموات بالدعاء لهم لإنهم في أمسِّ الحاجة إلى الدعاء الصادق, وزيارة المقابر مطلوبة شرعاً”.
ويشير العيسى إلى أنه في مدينة كفرنبل أربع مقابر، ومنذ دخلتها القوات النظامية التابعة للسلطة في دمشق في 4 تموز/ يوليو 2011 وحتى تاريخه زاد عدد القبور في أغلب المقابر، وخاصة المقبرة الجنوبية التي سميت بعدها “مقبرة الشهداء”. ويرد العيسى سبب ذلك “لعدم وجود حواجز أمنية تدقق بالأوراق على طريقها ما اضطر أهالي الشهداء إلى دفنهم فيها وذلك أدى إلى تضخمها, ولوحظ زيادة عدد الزوار منذ بداية استهداف المدينة بمختلف أنواع الأسلحة”.
أدت إحدى الغارات الجوية على المدينة في 27 أيلول / سبتمبر 2102 إلى مقتل الطالبة الجامعية “ختام البيوش” (19 عاما) ومنذ ذلك التاريخ ولتعلقه الشديد بابنته لم ينقطع المعلم محمد البيوش (62 عاماً) عن زيارة قبرها كل صباح. ويقول البيوش :” أنا ومثلي كثر نلتقي في المقبرة لنفس الغاية, ولأننا ضحايا لمجرم واحد, حرمنا من أعز وأغلى ما لدينا, وجدنا في المقابر ناحية إيجابية, فقد تحولت المقابر في المدينة إلى ما يشبه أندية التعارف بسبب الزيارات الدائمة لأهالي الشهداء الذين سقطوا منذ دخول قوات النظام وبعد خروجها لأكثر من عامين ونصف”.
وعن الأحاديث التي يتم تبادلها في المقبرة يضيف البيوش: “في أغلبها تساؤلات عن مشاعر الطيارين الذين ينفذون الغارات, وماذا يستفيد النظام من قتل الأبرياء وتدمير المنازل, ولماذا لا يستهدف النظام المقاتلين؟ إضافة إلى تعارفنا على بعضنا وأحوالنا بعد فقدنا لمن نزورهم ومن هم الذين فقدناهم وماذا كانوا يعملون”.
أصيب الحاج عبد الرحمن الأيوب (82 عاماً) عندما كان ينتظر أمام كوة لبيع الخبز استهدفها رصاص قوات النظام. توفي متأثراً بإصابته بثلاث رصاصات بعد خضوعه لعملية جراحية استغرقت خمس ساعات و نصف قبل عامين, زوجته الحاجة صبحية (80 عاماً) التي تروي هذه التفاصيل وكأنها بالأمس تقول: “أشعر بالوحدة كثيراً بعد رحيله, لم أعد أطيق الحياة, وأتمنى أن ألحقه قريباً لأكون بقربه دائما. أنا لا أستطيع زيارة قبره إلا نادراً بسبب انشغال أولادي بهمومهم وعائلاتهم وصعوبة حركتي تمنعني من الذهاب وحدي”.
لم يكن الطبيب سامي البيوش (54عاماً) يزور المقابر إلا أثناء تشييع الجنازات وفي عيدي الفطر والأضحى كواجب ديني وأخلاقي, ويقول الطبيب سامي:”بعد اعتقال ابني محمد (22 عاماً) من الجامعة حيث يدرس الطب البشري مع عدد من رفاقه دون أي ذنب اقترفوه، وواته بعد اعتقاله بتسعة أشهر مع اثنين من رفاقه تحت التعذيب، تحولت زيارتي إلى المقبرة يوميا، كل صباح برفقة والدته المدرّسة قبل توجهنا كلٌ إلى عمله. هو كان الشعلة التي تنير بيتنا وقد أطفأتها يد الغدر التابعة للنظام. وتحولت المقبرة بالنسبة لنا إلى فسحة نجد فيها الراحة النفسية حيث نبكي دون خجل “.
أحمد الذي قتله الجيش في بستان حيث كان يختبئ تقول والدته ( 51 عاماً) “قتلوه بدم بارد، ومنذ ذلك اليوم وأنا أزوره في قبره باستمرار. واجباتي المنزلية تجاه والده وإخوته منعتني من زيارته يومياً وبت أزوره كل يوم جمعة فقط, وما يواسيني ويخفف ألمي على فراقه رؤيتي لأبنائه يعيشون معي”.
بحسب رئيس المجلس المحلي عدنان القاسم (51 عاماً) كانت مسؤولية المقابر في عهد النظام تقع على عاتق مجلس المدينة، من خلال توفير الكهرباء وصيانة الطرقات وغير ذلك, ومنذ بداية الثورة لم تتحمل أي جهة هذه المسؤولية, واقتصر الأمر على الأهالي كونها موزعة جغرافيا وحسب العائلات, وأصحاب كل مقبرة يهتمون بها على نفقتهم, ولا يوجد لدى المجلس المحلي أي دعم مخصص للمقابر.
وفي ما يتعلق بأشكال القبور والشواهد والتسميات يقول خطيب أحد مساجد كفرنبل الشيخ أبو عمارة الشامي (32 عاما) وهو من التيار السلفي :”بالنسبة للشاهدة التي توضع على القبر وفي جميع المذاهب فإنه يسنّ أن يُعلّم قبر الميت بعلامة مثل الحجر أو الخشب، ولا حرج في ذلك من أجل التعرف عليه لا أكثر بسبب كثرة القبور, على ألا يتجاوز ارتفاع الشاهدة ثلثي ذراع (أي ما يعادل 30 سم) وما هو أعلى من ذلك فمكروه كراهة التحريم. أما الكتابة عليها إن احتيج إلى ذلك حتى لا يذهب الأثر فتجوز مثل كتابة الاسم وتاريخ الوفاة، أما الكتابة لغير ذلك فلا تجوز ويخشى أن توصل هذه الكتابة صاحبها إلى الشرك, ويمكن كتابة كلمة الشهيد بشرط أن تليها كلمة (بإذن الله)”.
وينبه الشامي إلى إن كل الشواهد المزخرفة والقبور المبنية ليست من السنة أبداً، ويجب تغيير صفات هذه الشواهد إلى الصفات المتفق عليها في جميع المذاهب والتي توافق السنة، دون حاجة لنبش القبور، إلا إن كانت أضرحة كاذبة لأنبياء أو أولياء يتقرب بها الناس إلى الله فيجب إزالتها نهائياً لأنها تمثل صورة من صور الشرك بالله, ولهذه الغاية تم قطع بعض الأشجار وردم بئر كان الناس يقدّمون عندها أضاحي من الدجاج من أجل الشفاء.