مع انتهاء الليل انتهت حياة عائلة
كان يوماً شتويا تميز بشدة برودته وبالغيوم التي لم تفارق السماء، اجتمعت مع عائلتي على طعام العشاء البسيط، بالكاد استطعنا تأمينه مع اشتداد وطأة الحصار المفروض على دوما. تبادلنا الأحاديث حول نهارنا والأمور التي واجهناها.
بعد العشاء والأحاديث العائلية حان وقت النوم، ذهبت إلى المكان الذي اعتدت عليه، بجانب النافذة، إلّا أن أمي طلبت مني تغيير مكاني. قالت لي: “لست مطمئنة لنومك هناك، ابتعدي عن النافذة”. ولم تكد تكمل كلامها حتى سقطت قذيفة قوية بالقرب من منزلنا. أفزعتنا بشكل كبير، ما دفعني للابتعاد عن النافذة، وخلال لحظات وقعت قذيفة أخرى ولكنها كانت أقرب وملأ الغبار الغرفة.
سمعنا أصوات استغاثة تنادي للإسعاف، ركض أبي ليتحرّى مصدر الصوت. قال لي إنهم جيراننا، القذيفة وقعت على منزلهم. ارتديت معطفي وحجابي فوق ملابسي على عجل، وركضت مسرعة بصحبة أختي وشباب الحارة إلى منزل جيراننا المصابين. وجدت على درج البناء المكون من طابقين جارتنا أم حاتم، كانت تندب وتصرخ وتقول: “راحت العيلة”. ركضت إلى الطابق الثاني، هناك كان حاتم يحاول النهوض، للبحث عن أولاده. راح يناديهم بأسمائهم بلا جواب. دخل أحد شبان الحي ممن تطوعوا لمهمة إنقاذ العائلة الى الغرفة التي وقعت فيها القذيفة. أخرج معه ندى (14 عاماً) كانت ساكنة لا تتحرك مغطّاة بالأتربة. وجدت هدى الأم، كانت مازالت على قيد الحياة وقد وقعت من السرير على الأرض. صرخت أطلب النجدة فجاء شاب آخر وحملها. نزلنا بسرعة الى الشارع نريد التوجه إلى النقطة الطبية. لكننا لم نجد سيارة، بسبب ارتفاع أسعار المحروقات وندرتها أوقفت الناس سياراتها عن العمل.
مشهد رهيب ذلك الذي عشته في تلك الليلة، كنا نحمل ثلاثة مصابين ولا نجد سيارة نركبها لنتجه إلى النقطة الإسعافية المتواجدة في المدينة. بدأ الشبان يطرقون على كل الجيران باحثين عن كمية من المازوت كافية لتشغيل إحدى السيارات. وبعد أن وجدوا المازوت اخترنا سيارة كبيرة لتقلّنا وذهبنا إلى الإسعاف. وبسرعة دخلت إلى النقطة وكان المسعفون المناوبون على جهوزية لاستقبال كل طارئ.
ندى تلك الطفلة البريئة كانت قد استشهدت مباشرة بعد سقوط القذيفة. الشظايا اخترقت رأسها الجميل. أمّا هدى أم ندى وزوجة حاتم فكانت إصابتها خطرة. الشظايا اخترقت رجلها وبطنها، ما استدعى نقلها مباشرة إلى غرفة العمليات. أما محمد الطفل الصغير فكان مصاب ببعض الرضوض فقط .
ركض الأب حاتم، الذي تمكّن من اللحاق بنا مع والدته إلى المستشفى، عانق جثة ندى وراح يبكيها ويقول لها: سلمي على أخيك بشار. بشار هو ابنه البكر، كان مجاهداً في الجيش الحر، وقد استشهد قبل أسبوع فقط من تلك الحادثة. الجدة المسكينة كانت تبكي وتصرخ. حقنها المسعف بمهدئ علّه يساعدها على تجاوز مصيبتها أو وقع الصدمة.
وبصحبة أختي انطلقنا إلى مكان وجود غرفة العمليات، حيث مازالت الأم تصارع لتبقى على قيد الحياة. وقفنا على باب غرفة العمليات ننتظر خروج من يحمل لنا خبراً منها. مضت ساعة كاملة حتى خرجت الممرضة. سألتها بسرعة عن وضع هدى فقالت لي أن الطبيب يعمل ما بوسعه ولكن بالتأكيد الإصابة كبيرة جداً ويجب أن نحضر أنفسنا إلى احتمال وفاتها. وبعد ساعتين خرج الطبيب معلنا وفاة هدى أثناء العملية، توقف قلبها.
تم نقل الجثة إلى النقطة التابعة للدفاع المدني حيث يتم تجهيز الشهداء للدفن. ونحن بدورنا ذهبنا إلى هناك لنجد جثمان ندى سبقنا أيضاً إلى هناك. تم وضع الأم وابنتها سوياً والأب قد اختنق بدموعه، والجميع يبحث عن نذير الابن الثاني للعائلة ونور الابنة الكبرى المتزوجة ليتمكنا من وداع أمهما وأختهما.
كان الليل قد شارف على نهايته، بدأت أشعة الشمس تتسلل معلنة بداية يوم جديد. نحن ما زلنا ننتظر بقية العائلة لنقوم بالدفن. وفي الساعة السابعة صباحاً حضرت نور ومعها أخيها. بصعوبة كبيرة أمسك بها والدها و زوجها ليبعداها عن أمها ولم تتوقف عن الصراخ والعويل. رحلوا بالشهداء إلى المقبرة، وعدنا إلى المنزل. كان التعب قد أنهك جسدي وأختي معي بدأت تقص لأمي الأحداث التي جرت معنا. اصطحبت برفقتي محمد ذلك الطفل الصغير الناجي، حيث أنه لا يوجد أحد يعتني به في هذه الظروف الصعبة. قامت أمي برعايته، وحاولت جاهدة لينام و يهدأ بعد ما عاناه في الساعات الماضية. ثم أعدت لي أمي فنجاناً من القهوة لأن الإرهاق كان قد نال مني. لم أدرِ كيف مرّت تلك الساعات.
كل شيء حدث في الظلام. أشرقت الشمس بعد أن انتهت حياة عائلة. عدنا نحن من بقينا على قيد الحياة إلى حياتنا العادية. ويغفل العالم كله عن هذه الجريمة النكراء التي تتكرر في كل أيام سوريا منذ خمسة أعوام وحتى الآن.
كان ذلك في شتاء كانون الثاني/يناير من العام 2013.
حنين عبد الرحمن، تركت دراستها في الطب بشري في سنتها الجامعية الثالثة في دمشق، لتذهب إلى الغوطة وتعمل فيها كمسعفة لمدة سنتين. عملت في العديد من النقاط الإسعافية والطبية. ومنذ شهرين اضطرت لترك الغوطة وعادت إلى دمشق.