معاناة أن تكون صحفياً في حلب

لينا الحكيم*

(حلب، سوريا) – ممارسة العمل الصحفي من أصعب المهن؛ هي مهنة البحث عن الحقيقة، التي تتضاعف الصعوبة والخطر في إيجادها في حالات النزاع المسلح كما يحدث في سوريا.

كصحفية من حلب، ليس الأمر سهلاً على الإطلاق. أقيم في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري غربي حلب، وأحاول أن أنقل ممارساته والأوضاع الإنسانية في هذا الجزء من المدينة، وهذا ما يتطلب مني خلق دائرة معارف كبيرة للحصول على الأخبار والظروف المعيشية بأكثر قدر ممكن من الدقة، مع الحفاظ على سرّيّة عملي، إذ تنشط حملات الاعتقال بشكل دوري، وهي تستهدف الشابات كما الشباب.

الناشط  الإعلامي الحلبي عبد الوهاب الملا اختطف ولا يزال مصيره مجهولاً - مصدر الصورة: "حلب نيوز"
الناشط الإعلامي الحلبي عبد الوهاب الملا اختطف ولا يزال مصيره مجهولاً – مصدر الصورة: حلب نيوز

قبل أن أكون صحفية، أنا مواطنة، تعاني المأساة ذاتها كما جميع المواطنين. فإضافة إلى الخوف من الاعتقال، تواجه الصحفية الظروف المعيشية العادية، من انقطاع المياه والكهرباء والغلاء والفقدان المتوالي للمواد الغذائية الأساسية والمحروقات. تأمين ضرورات الحياة التي قد تعد تحصيلاً حاصلاً في جزء آخر من العالم، تعد هنا تحدياً بالنسبة إلى عائلتي، كما هو حال معظم الناس: التدفئة في هذا الشتاء الأقسى على المدينة، الاستحمام في ظل انقطاع المياه، تسخين المياه (عندما لا تكون مقطوعة) وتنظيف الملابس يدوياً في ظل الوضع السيئ للكهرباء، وتأمين الغاز الذي لا ينفك سعره يرتفع.

ولكن يحتل رأس قائمة الهواجس الخوف من الموت بقذيفة أو رصاصة طائشة أو مقصودة، حيث يشهد هذا الجزء من المدينة قصفاً أيضاً من طرف المعارضة المسلحة بشكل شبه يومي، مما يوقع العديد من الإصابات البشرية إضافة للأضرار المادية. حتى أسماء الأحياء والطرقات تعرضت للحرب والتخريب، فغيّر السكان أسماءها لتتناسب مع ما تتعرض له: بات جزء من حي السليمانية يدعى “مربع الهاون” لكثرة تعرضه لسقوط قذائف. أما حي الجميلية، فهو أكثر المناطق عرضة لهطول “جرّات الغاز” عبر ما يعرف بـ “مدفع جهنم”، إذ يطلق مقاتلو المعارضة صواريخ محلية الصنع تثبت على رؤوسها عبوات غاز.

البحث عن الحقيقة، والإصرار على نقل الواقع بأشمل صورة، يتطلب إجراء مقابلات مع مواطنين وجدوا أنفسهم بين فكّي كمّاشة النزاع، ويتحفظون على إجراء مقابلات مصورة خوفاً من الملاحقة الأمنية. يتبع ذلك العودة إلى المنزل لإفراغ كل هذا الألم ضمن تقارير مكتوبة، في ظل انقطاع التيار الكهربائي الذي قد يستمر لأيام أو تغذية لساعات قليلة في اليوم (بحدود 4 إلى 8 ساعات يومياً بشكل متقطع بأحسن الأحوال). يضاف إلى ذلك الانقطاع المتكرر للانترنت، بالإضافة إلى صعوبة إجراء المكالمات الخليوية ضمن المدينة نفسها نتيجة ضعف الشبكة، مما يجعل من الصعب الوصول إلى المعلومات المراد الحصول عليها، ونقلها إلى العالم.

هنا كل شيء مبهم وغامض، فالشائعات تنتشر كالنار في الهشيم، حتى لو كنت بقلب الحدث تجد نفسك غير مدرك تماماً لما يحصل. قد تكون ضمن منطقة محددة حين سقوط قذيفة فيها، لكن لكل شخص روايته عمّا حدث حقاً، وعن عدد الإصابات، فلا وجود لمصادر رسمية يمكن التحدث إليها أو أخذ المعلومات منها. الشارع اليوم هو مصدر كل الأخبار.

الطرقات في هذا الجزء من المدينة مغلقة بالسواتر الترابية، أو مقسمة بحواجز تابعة للجيش و”كتائب البعث”. يسبب ذلك ازدحاماً دائماً في الطرقات، والتواجد الأمني في كل مكان يجعل من شبه المستحيل حمل كاميرا والتصوير العلني في حال لم يكن الصحفي تابعاً لجهة إعلامية موالية للنظام.

يقوم الحاجز الفاصل بين قسمي المدينة بالتفتيش والتدقيق في هويات المارة، مما يعرقل تنقّل النشطاء والإعلاميين المقيمين في القسم الغربي من المدينة إلى القسم الآخر ونقل ما يحدث فيه، مثل عمليات القصف المتتالية من طائرات النظام، التي أوقعت في الاسبوعين الماضيين عدداً كبيراً من الضحايا المدنيين. أما صعوبة العمل في القسم الشرقي من حلب، فهي ناتجة بشكل رئيس عن  اختطاف الإعلاميين المتكرر من جهات إسلامية متعددة أبرزها “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، وهي صعوبات تقف في وجه أولئك الذين يقطنون الأحياء غير الخاضعة للنظام، مثل الناشط الإعلامي عبد الوهاب الملا، الذي اختطف في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر ولا يزال مصيره مجهولاً.

في أحياء حلب الغربية، تنتشر قصص الخطف و”التشليح” أي السرقات، التي تبدأ من الأموال والهواتف الخليوية، وصولاً إلى سرقة السيارات في وضح النهار بقوة السلاح. أو قد تحدث خلال الليل، ليستقيظ أحدهم دون أن يجد سيارته أمام منزله. كما يجري أيضاً العديد من عمليات الاختطاف لأجل طلب فدية مالية مرتفعة من ذوي الضحية، دون أن يدري أحد لمن تتبع هذه العصابات: هل هم شبيحة، أم لصوص يستغلون الفوضى المتفشية في البلاد؟

جميع هذه الأخطار الأمنية تزيد الضغط علينا كشباب وشابات من قبل ذوينا، الذين باتوا يقلقون من خروجنا اليومي من المنازل ويتحفظّون على التأخير. رقابة الأهل وقلقهم، ولو المبرر، يزيد الصعوبات، فخلال وقت قليل يتوجّب على الصحفية أن تخرج لتحصل على أكبر قدر ممكن من المعلومات حول التقرير الذي تعمل عليه. فغالب النشطاء الإعلاميين لا علم لذويهم بنشاطهم، بسبب خوف الأهل من اعتقال أبنائهم وجلب “البلاء” على العائلة، فمن المعروف أن الأمن السوري يمارس الضغط على العائلة كاملة وليس فقط على الناشط المعتقل.

في ظل هذه التحديات جميعها، يبقى الألم كبيراً أن يرى الإنسان  مدينته ووطنه يتعرضان للهدم والدمار أمام ناظريه، دون أن يتمكن في أحيان كثيرة من إيصال صوته.

*لينا الحكيم اسم مستعار لصحافية تعيش داخل سوريا.