مستقبلي تحت القذائف
معظم أهالي المناطق الخارجة عن سيطرة قوات النظام في ريف إدلب، لا يؤيدون فكرة إرسال أبنائهم الطلاب إلى الجامعات في مركز المدينة، التي كانت حتى العام 2015 خاضعة لسيطرة النظام.
ينطلق موقف الأهالي من أسباب عديدة أهمها، اعتقال الطلاب لسوقهم إلى الخدمة العسكرية. أما بالنسبة للإناث هناك أسباب أخرى، أهمها أنها أنثى بالمقام الأول، واعتقالها في مجتمع ملتزم بحد ذاته فضيحة أخلاقية بالنسبة للعائلة، والفكرة القائلة أن جنود النظام يتحرشون بالفتيات كانت أيضا من الأسباب المهمة. بالنسبة لي كان زوجي كسائر أبناء المناطق المحررة، وخصوصا أنه كان من مناهضي النظام منذ بداية الأحداث. لم أكن أكترث كثيراً بكل ما سلف من أسباب، خصوصا أنني كنت في السنة الرابعة على أبواب التخرّج. مثلي مثل العديد من صديقاتي أيضا، لم أقتنع أبدا بفكرة ترك تعليمي لهذه الأسباب، وكنت مستعدة لدفع فاتورة قناعاتي إن حدث وتم اعتقالي.
دورة الامتحان الأولى من العام 2014 كانت على الأبواب. قررت أنا وبعض صديقاتي الذهاب إلى الجامعة، حيث كنا قد استأجرنا منزلاً عند سيدة كبيرة في السن تعرفنا عليها في فترة سابقة. قررنا تقديم الامتحانات على الرغم من الأجواء المشحونة بين فصائل المعارضة المسلحة وبين قوات النظام. كان قراري هذه بمثابة انتحار بالنسبة لزوجي وعائلتي، وكان بالنسبة لي تحديد مستقبل.
بدأت الامتحانات وخرجت أنا وصديقاتي إلى المدينة، على الرغم من إصدار الهيئة الإسلامية لإدارة المناطق المحررة قراراً يقضي بعدم ذهاب الطلاب إلى الجامعات. قالت الهيئة في قرارها أن مدينة إدلب مستهدفة من قبل فصائل المعارضة، ودعوا المدنيين إلى التزام بيوتهم.
ذهبت أنا وصديقاتي باتجاه الجامعة لتقديم أول المواد. لم تكن الشوارع مليئة بالناس وكان المظهر يشبه مدن الأشباح. لم يخل من بعض المارة بين الحين والآخر، وبعض الحواجز الطيارة لجيش النظام. بعد المسير لعدة دقائق شاهدنا سيارة أجرة وصعدنا بها. استنتج السائق كبير السن من النظر إلينا عبر مرآة السيارة أننا طالبات جامعة، وقال بعد صمت: “منذ دقائق سقطت قذائف على ساحة الجامعة”. لم نعلّق على الموضوع. صمت بعدها وأخذت أنا ورفيقاتي ننظر إلى بعضنا. صديقتي االتي كانت بجانبي راحت تبكي بصمت. أوقفنا السائق أمام باب الجامعة، وتنشقنا رائحة البارود التي تعودنا عليها في المناطق المحررة، لم يكن هناك طلاب في الساحة، وحرس الباب الرئيسي صرخ بنا “أسرعوا إلى الداخل”.
لم يكن هذا اليوم بالقاسي علينا، قدّمنا المادة موضوع الامتحان، وخرجنا مسرعات إلى البيت. في اليوم التالي كان علي تقديم مادة بمفردي، رفيقتي المقربة قبل أن أخرج بدقيقة من المنزل، قالت لي: “انتظري سأخرج معك”. كنت أقول لهن أني لست خائفة من الذهاب وحدي، لكنني كنت أكذب، ورفيقتي كانت تعرف ذلك جيداً، عندما قرننا الخروج من المنزل، سمعنا صوت انفجار. كان قريباً جداً من منزلنا، بل كان أمام المنزل، اختبأت أنا وصديقاتي في المطبخ الذي كان باعتقادنا أنه أكثر المناطق أمناً في المنزل.
بعد قليل سمعنا صوت بكاء طفلة مع طرق على الباب. أسرعت إلى الباب، كانت الطفلة خائفة جداً، حاولت الكلام وتلعثمت. لم أفهم عليها، حاولت إدخالها إلى المنزل، رفضت بشدة. أمسكت بيدي وحاولت جرّي إلى الخارج، كنت خائفة بقدر خوفها، فما زالت القذائف تتساقط في أرجاء المدينة، مع هذا خرجت معها، كانت تحاول أن تقول لي أن أمها تحتاج للمساعدة، لم تكن مصابة، ولكنها كانت على الأرض مرتعبة لا تستطيع الوقوف. حاولت جرّها إلى الداخل، لم أستطع ذلك، حتى جاءت صديقتي وساعدتني في ذلك.
لم أجرؤ بعدها على الذهاب لتقديم مادتي. ولم نذهب إلى باقي المواد، كلها.
شوارع المدينة أصبحت خالية تماماً من المدنيين. هناك فقط جنود النظام، وقذائف المدفعية التي تتساقط على المدينة، كان مجرد التفكير بالخروج إلى الجامعة بمثابة انتحار، كما أننا لم نعد نستطيع الخروج إلى قرانا بسبب قطع الطرق المؤدية إلى المدينة من قبل المعارضة، للضغط على النظام الذي تحول بدوره ضغطاً علينا.
بقينا في البيت حتى انتهاء الامتحانات التي لم نقدّم منها سوى مادة واحدة، بعد انتهاء الامتحانات قررت المعارضة فتح الطرق، وقررنا العودة إلى مناطقنا المحررة.
مريم محمد (23 عاماً) متزوجة أم لولد واحد طالبة تربية في السنة الرابعة في جامعة إدلب، اضطرت لترك جامعتها بسبب المعارك بين الثوار والنظام.