مذكرات الثورة: شمس حوران
رزان زيتونة
كنت قد تعرفت-افتراضيا- على والدها وإخوتها منذ بداية الحراك في درعا، ولم أخف دهشتي حين طلب إلي والدها ذات يوم التحدث إليها عبر الهاتف. كان فخوراً وسعيداً ربما بإدهاشي، ولسان حاله يقول، نحن عائلة من حوران، كبارها وصغارها، شبابها وبناتها مع الثورة.
تسمي نفسها شمس الحرية، طالبة جامعية في أوائل عشرينياتها، لم تكتف بتجاوز جدار الخوف منذ اليوم الأول للثورة، بل قفزت فوق جدران لا تقل ارتفاعاً وصلابة لتكون من الصبايا القليلات اللواتي شاركن في أول مظاهرات حوران، في مجتمع شديد المحافظة اجتماعياً ودينياً.
تقول شمس أنها كانت تتابع أخبار الثورتين التونسية والمصرية بشغف، وحين رحل مبارك عن الحكم في مصر قالت في نفسها: رحل مبارك وجاء دور بشار.
في الثامن عشر من آذار 2011، كانت في منزلها حين سمعت هدير طائرات تحلق في سماء حوران “خرجت أسأل ما هذا، فأخبروني أن هنالك مظاهرة في درعا. علمت لحظتها أنها البداية. في اليوم التالي هيأت نفسي للمشاركة في تشييع جثامين شهداء اليوم السابق، خرجت إلى درعا البلد، رأيت مئات الجنود مصطفين على الجسر الواصل بين البلد والمحطة، وكان من الواضح أنهم سيحاولون قمع المتظاهرين من جديد. مشيت على الرصيف باتجاه جموع الرجال العائدين من المقبرة بعد دفن الشهداء، رفعت موبايلي لأصور الحشود، فإذا بشخص يمسكني من يدي ويقول: ماذا تفعلين هنا؟ نظرت إليه فإذا به أخي، قلت له: أفعل ما تفعله أنت، أنا هنا للسبب نفسه الذي جئت أنت لأجله. أخي العزيز، أمسك بيدي وأدخلني بين جموع الثوار”.
تقول شمس أنها كانت الفتاة الوحيدة بين الآلاف من رجال حوران الصادحة حناجرهم بالهتاف: الله سوريا حرية وبس، بالروح بالدم نفديك يا شهيد.
“حاول أخي أن يثنيني عن المشاركة بالهتاف. لكنني بدأت بالصراخ حرية حرية”.
تقول شمس أنه لا يمكن للمرء أن يطمح لأكثر من تلك اللحظات، ليشعر أنه يمسك الحاضر والمستقبل بين يديه، وأنه قادر على صنع ما ظنه مستحيلاً لوقت طويل.
الخطوة التالية لشمس كانت بزيارة ذوي شهداء ذلك اليوم. “بعد السؤال وصلت إلى بيت احدهم ودخلت وأنا أسأل بصوت مرتفع: أين أم البطل، فتعجبت النساء مني، أعتقد أنني أثرت حيرتهم وتوجسهم في تلك اللحظات. كانت أم الشهيد لا تزال تبكي بصمت، مستلقية على الأرض كجسد بلا روح. اقتربت منها وقبلت رأسها، قلت لها قسماً انك أنجبت بطلاً ودمه لن يضيع هباءً، حضنتها وبكيت وبكيت وأنا لا اعلم ان كانت تسمعني”.
كانت شمس من أوائل الصبايا اللواتي تواصلن مع وسائل الإعلام لنقل الحدث وتفاصيله. لم تكن لتنتظر أن يبادر أحد للسؤال، بل كانت تبادر للإتصال بالفضائيات بنفسها. وكان صوتها وجرأتها وكأنها فطمت على الثورة وكبرت على اسمها وملامحها.
تقول شمس أنها مع الوقت بدأت تخرج في المظاهرات مع كامل أفراد عائلتها، قبل أن تصبح مشاركة النساء أكبر يوماً بعد يوم في مختلف أنحاء حوران.
“لا بد أن مشوارنا في قلب المفاهيم والتقاليد التي تقيد دورنا طويل جداً، لكن خطوتنا الأهم هي أننا بدأنا بانتفاضة الكرامة نحو إسقاط النظام الاستبدادي، الذي يعتبر المحافظة على تخلفنا وعاداتنا البالية أحد أهم أسباب استمراره”.
وتضيف شمس “على أية حال، فإن تلك الحواجز الإجتماعية كانت تتضاءل شيئاً فشيئاً مع ازدياد المعاناة الإنسانية التي كانت تدفعني والأخريات للتفاعل معها ولنكون ضد صانيعها”.
سبب آخر حد من مشاركة واسعة للنساء في حوران، الحصار الأمني والعسكري الشديد. “أصبحت حركتنا أكثر صعوبة والتنسيق بيننا كذلك، خاصة أنه لم تكن توجد هناك تنسيقية موحدة للفتيات الناشطات من أجل تنظيم خروجهن في المظاهرات وبقية الأنشطة التي يمكن أن يساهمن بها”.
لا يقف حماس شمس عند حد للمشاركة في كل ما تستطيع المساهمة به في الثورة، ورغم أنني أشعر بالعجز لدى لقائها عبر الإنترنت لما تمطرني به من أسئلة لا أملك الإجابة على معظمها، حول كل شيء، وخلال دقائق قليلة تكون فيها خدمة الإنترنت في بلدتها متوفرة، إلا أنها في الوقت نفسه تمنحني إحساساً بالحياة والأمل ومضاداً للكآبة واليأس، لأيام قادمة عديدة!
حتى عندما تتحدث عن الألم اليومي الذي تعيشه وأهل حوران، فهي تختم حديثها دائماً وكأن الحلم أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحقق.
“إنهم يصرون على خطاب الكراهية في مواجهة خطاب الحرية، ويصرون على القتل بأشكاله المختلفة، فللقتل أساليب عديدة. في جمعة الغضب بتاريخ 22-4 نودي في المآذن للتبرع بالدماء من أجل المصابين برصاص الأمن، فخرجت من منزلي مسرعة وتوجهت إلى أقرب مشفى للتبرع، وكانت الصدمة حين اكتشفت أنه لا يوجد أكياس دم وبالتالي فإن وجودي مثل عدمه. أي جنون وأي حزن أصابني. ربما أن جريحاً استشهد كان سيعيش من دمائي…”.
وكانت لحظات قاسية جداً في كل مرة داهم العسكر بيتنا. كنت أقول لهم أنتم أخوتنا، حرام عليكم، كانوا هم يشتمون أعراضنا ويسيئون إلينا قبل اعتقال أخوتي بتهمة التظاهر.
لكن ذلك كله لا يهم. فهم لا يعرفون أن كل ليمونة ستنجب طفلاً حراً ومحال أن ينتهي الليمون…”.
رغم كل ماتقوم به فهي غير راضية تماماً عن دورها في الثورة، شمس تعتبر أن الجميع يبقى مقصر حتى اللحظة التي تتحقق فيها أهداف الثورة أو تقترب جداً من تحققها “لم ولن أرضى عن دوري في الثورة حتى تأتي اللحظة التي أقف فيها أمام القصر الجمهوري وأصرخ بملء صوتي ليسمعها بشار… إرحل يا جزار”.