مذكرات الثورة: داعل صديقي يهوى تحطيم الأصنام!

رزان زيتونة

صديقي عادل كان يتدفق بالذكريات ويحكيها كشريط مصور بأدق التفاصيل وبالفرح والخوف والقلق نفسه، جلها نسيته في زحمة أسماء الشهداء وأعداد المعتقلين والألم اليومي اللامنتهي. لكن عادل من داعل الجميلة، لم ينس أي تفصيل مهما كان صغيراً.

سوريا… معاكي للموت…

“من يوم سقوط الرئيس التونسي، أخبرت أمي بأنني سأخرج في مظاهرات في سوريا قريباً. وسنسقط النظام… أمي ردت علي وقتها، بأنني وهبتك لله، فقط انتبه لنفسك”. هكذا بدء حديثي مع عادل حول كيفية إنخراطه في الثورة في بلدته الصغيرة التي تبعد نحو عشرين كلم عن درعا المدينة.

عادل في أوائل العشرينيات من عمره، طالب جامعي. عبارته المأثورة في كل حين: إحنا معاكي للموت… يا درعا، يا حمص، يا بانياس… يا سوريا… بقدر ما تعكس العبارة شجاعته بقدر ما تسبب لي الحزن… شبان مثل عادل خلقوا ليعيشوا… لا ليموتوا جزاء محبتهم للحياة.

يفخر عادل بأن داعل كانت أول البلدات التي “فَزِعَت” لدرعا المدينة في الثامن عشر من آذار، فتوجه شبانها إلى هناك لدعم أهلهم… بينما كانت المظاهرة الأولى في داعل نفسها في العشرين من آذار.

فقدت البلدة ثلاثة عشر شهيداً منذ بداية الثورة، جرى اقتحامها في الثامن من أيار بعد درعا البلدة مباشرة. ولاتزال منذ ذلك الوقت كغيرها من بلدات وقرى درعا، محاصرة بالجيش والأمن ومقطعة الأوصال بالحواجز، ومازالت أيضاً تشهد المظاهرات اليومية بلا انقطاع.

في داعل بداية الثورة، كانت معظم المظاهرات ليلية لأن النهار من نصيب درعا المدينة. كان الشبان يقطعون نحو 60% من المسافة مشياً على الأقدام. ويستعينون بالمواصلات العامة أو السيارات لقطع باقي المسافة. تمشي الحشود بما يشبه الموكب الذي ينتظر حفلاً مهيباً في مكان ما. ينتابهم الإحساس بالإثارة والترقب والقلق والفرح في الوقت نفسه.

“أحياناً كانت تمطر. وفي كل مرة سقط فيها المطر… كان يوما دامياً… صار المطر لدينا يترافق مع صور الشهداء”.

المكالمة الأولى

“في العشرين من آذار خرجت مع أصدقائي إلى درعا المدينة، وبمجرد وصولي بالقرب من الجامع العمري، كان الناس يتجمعون هناك، طلبت من أحد أصدقائي أن يحملني على أكتافه فرفض بداية، ثم رضخ، وبدأت أهتف بكل طاقتي وفي كل درعا البلد: قولو الله قولو الله… الشعب السوري يا ماشاء الله… ضبو عليا ضبو عليا يلي بتحبو سوريا. كانت تلك أجمل لحظة في حياتي سأبقى أحكيها لكل الناس ولأولادي وأحفادي. في اليوم نفسه، اتصلتِ بي للمرة الأولى”.

“فبعد أن منعتنا قوات الأمن من الوصول إلى درعا المحطة، ورمت علينا القنابل المسيلة للدموع ووقعت العديد من حالات الاختناق وامتلأ الجامع العمري بالمصابين وبدأت الاستغاثات من أجل إسعافهم. كنا نساعد في عمليات الإسعاف وقتها. .يومها اتصلت بي. كنت متردداً في البداية. فجميع الخطوط مراقبة. لكن عندما رأيت الجرحى من حولي… قررت أن أتكلم. وأصف ما أراه”.

لا أتذكر المكالمة الأولى حقيقة. لدي عشرات المكالمات الأولى ولمختلف المناطق التي شهدت مظاهرات واحتجاجات في بداية الثورة. لكنني أذكر تماماً كيف كنت أبكي بصمت وأنا أشاهد ما يحدث من خلال صوت عادل وغالبا مع خلفية تتمثل بأصوات إطلاق النار واستغاثات الجوامع.

تحطيم الأصنام…

من الأكثر تميزاً في مذكرات عادل عن الثورة، هي حكاياته عن الأصنام التي شهد على أو شارك في تحطيمها!

ففي داعل، جرى تحطيم أول تمثال لحافظ الأسد، في السادس عشر من آذار، تلك التماثيل التي كانت تنتشر على مداخل البلدات وفي ساحاتها الرئيسية على امتداد البلاد.

“التمثال كان موجوداً على الدوار الجديد على طريق درعا، كنا قد خططنا في الليلة السابقة لتحطيمه، وأعددنا منشوراً بهذا المضمون لتوزيعه، ودعوة الناس للتجمع في ساحة المطار من أجل تنفيذ هذه المهمة. صباح اليوم التالي صحونا لنجد الصنم وقد تحطم على أيدي شبان آخرين في الليل. جاءت قوات الأمن وغطت الدوار بشكل كامل قبل أن ينصبوا صنماً جديداً مكانه”.

صمد التمثال الجديد حتى العشرين من آذار نفسه، حيث جرى تحطيمه من جديد على أيدي شباب داعل.

“عدنا من مظاهرة درعا المدينة غاضبين بشكل كبير للعنف الممارس هناك من قبل النظام. تجمعنا بالقرب من الجامع الكبير وهتفنا فزعة فزعة يا داعل. أصبح عددنا نحو ألفين، وبدأنا نهتف حرية حرية، وصلنا الدوار القديم وأغلقنا الطريق. ومع صباح اليوم التالي كان الدوار الجديد مزيناً بالصنم المحطم”.

أما الصنم الثالث الذي شارك عادل في تحطيمه، فكان بتاريخ 25-3 في درعا المحطة.

“تجمعنا في ساحة المطار أمام منزل المحافظ وكنا أكثر من ستين ألف شخص، صلينا صلاة الغائب على أرواح الشهداء وقررنا الاعتصام في المكان. ثم علمنا عن استشهاد متظاهرين في الصنمين. فبدأنا بالهتاف الله أكبر الله أكبر، وتوجه بعض الشبان إلى صورة بشار ومزقوها، ثم إلى التمثال وبدؤوا بتكسيره، كنت أعتقد أنه من البرونز أو الرصاص، لكن تبين أنه من الفلين، تمثال مغشوش. لذلك قمنا بحرقه بدل تحطيمه”.

“سقط أربعة شهداء حول التمثال برصاص الأمن. إتصلت بك وأخبرتك عن إطلاق النار وسقوط الشهداء. وبدأتِ أنت بالبكاء. وقلت لك، لا تبكِ، نحن المنتصرون، فقط ادعِ لنا… لكنه كان بالفعل أغرب مشهد في حياتي. حيث إجتمع الفرح الشديد مع الخوف الشديد ونحن في مرمى نيران الأمن والشبيحة…”.

مجزرة اليادودة

وتبقى أقسى لحظات عادل أثناء الثورة، هي يوم مجزرتي صيدا واليادودة في التاسع والعشرين من نيسان. ” تجمع أكثر من مئة وخمسين ألف متظاهر في بلدة اليادودة لفك الحصار عن درعا، أخذنا معنا حليب الأطفال ومياه وخبز، فتحوا الحاجز الأول فدخل البعض لكن سرعان ما خرج عناصر الأمن والشبيحة من بين القمح والزيتون وبدء انهمار الرصاص على المتظاهرين وبدأت أشاهد الناس محمولة على الأكتاف وفي عربات الخضار والدراجات النارية والدماء تسيل منها حيث منعت سيارات الاسعاف من الوصول إلينا، والجميع يصيح الله أكبر لا إله إلا الله… فداكي يا درعا…

حاولت الاتصال بك… لكن الاتصالات كانت مقطوعة… أحسست أني أختنق.

استمر اطلاق النار… سقط شهيدان من داعل… رجعت وذهبت إلى مشفى طفس وحصلت على أسماء الشهداء الذين نقلوا إلى هناك… كانت حصيلة مجزرة اليادودة عشرات الشهداء والجرحى ومئات المعتقلين.

وصلت إلى منزلي في داعل. كانت أمي تبكي وكذلك أخوتي. سمعوا بما حصل واعتقدوا أني قتلت. كنت في غاية الحزن والإحباط. خاصة وأن دمشق وحلب نائمتان. لكن ارتدت روحي أثناء تشييع شهيدي داعل عندما خرجت البلدة كلها في التشييع”.

عروس من بانياس

خيبة عادل من دمشق تعززت في إحدى زياراته القليلة إليها لاحقا.

“في أواسط أيار نزلت إلى دمشق وكانت المرة الأولى لي منذ بداية الثورة. عندما وصلت إلى المتحلق قرأت لافتة تقول: حاصروا رموز الفتنة… أحسست أن الكلام موجه لي… أنا أحد رموز الفتنة… أحسست أني أختنق… وزاد إحساسي هذا عندما وجدت الحياة في دمشق طبيعية… وكأن شيئاً لا يحصل في المدن الأخرى”.

أعرف تماما إحساس عادل، باعتبار دمشق لا تزال في معظم أجزائها رهينة الأصنام والصور واللافتات التي تدحض “الفتنة” وتحرض على “أصحابها”.

على أية حال. عادل كسواه من شباب الثورة، متيقن من لحظة الحرية التي ستعيشها سوريا… وهو يخطط لتلك اللحظات منذ الآن.

“أول ما سأفعله عند سقوط النظام هو زيارة الجامع العمري، لأنني لم أزره منذ دخول الجيش إلى درعا. أيضاً أريد زيارة بانياس وساحة البيضة. وأن أدعوكم جميعاً عندي في المنزل”.

يستطرد عادل. بأنه يقصدنا نحن، أصدقاؤه، وليس جميع القراء! لكن ربما دعانا جميعاً إلى عرسه عندما يجد، كما يتمنى، عروساً من بانياس التي يحب والتي كانت من أوائل المدن التي “فزعت” لدرعا، كما يقول.