مخاض اشبه بالموت
A woman and her daughter cross the street in front of a destroyed building in the al- Marja neighbourhood. Photo by: Hussam Kuwaifatiyeh
في صباح ذلك اليوم من شهر آب عام 2015، لم أكن أفكر سوى بالعوده إلى منزلي. كنا قد نزحنا من قريتنا بسب القصف الهمجي لطيران النظام. كنت أحسّ ببعض التفاؤل بأنني سألد صبياً. فأنا أم لطفلتين، والآن سألد الصبي. ظننت أن زوجي سيكون سعيدٱ جدأ بذلك. كنت أحلم بفرحة زوجي وأهله وأهلي حين أضع طفلي الصغير، ولكن كانت كما قلت مجرد أحلام…
عند المساء أحسست بثقل داخل أحشائي، أبلغت خالتي بذلك، فقالت قد آن وقت ولادتك. وفي تلك الاثناء كنت نازحة عند خالتي، زوجه ابي في قرية بعيده عن قريتنا وبعيدة عن زوجي وأهلي وأمي . ولكنه وقت الولادة ولا مفر من ذلك. تحمّلت آلام التشنج والمغص الموجع حتى الصباح. نام أبي وزوجته وطفلتيّ الصغيرتين نامتا أيضاً. بدأت أرقب بزوغ الفجر على أحرّ من الجمر. تارة أفكّر بزوجي وتارة بأمي وتارة أفكر بيتي، هكذا حتى طلوع الشمس.
أيقظت خالتي وأبلغتها بأنني لن أستطيع تحمّل أكثر من ذلك. فقامت بدورها بإيقاظ أبي الذي قال لي “هيا يا ابنتي، جهزي اغراضك سأستدعي أم خالد لتذهب معك”. كانت أم خالد امرأة طيبة تعيش وحيدة. جميع أولادها كبروا وتزوجوا. ولا يسكن أحد معها في منزلها. وفعلا لبّت تلك المرأة الطيبه دعوة أبي، للذهاب معي كي أضع ابني. ذهبنا أنا وأم خالد ومشينا في الطريق نبحث عمن يقلّنا إلى المشفى السقيلبية الوطني. عثرنا على ميكرو باص ليقلّنا.
عند أول حاجز للنظام أخذوا هوياتنا للتأكد منها. ويا له من نذل فقد قام بتفتيش كل أغراضي، مع معاملة مزعجة، على الأرجح كان السبب بعض ما وجده في الهوية من معلومات عن الانتماء المناطقي أو الديني. وعبرنا الحاجز الأول، ولكن عند مرورنا على حاجز النحل في دوار السقيلبية قام الجندي بالتدقيق بهويتي لانها تشير إلى قبرفضه. وكانت مواجهات مواجهات عنيفة تدور هناك بين جيش النظام وفصائل تابعة للجيش الحر. سألني الجندي عن زوجي، بلكنة تدل على انتمائه المختلف والتي يمكن رصدها بوضوح. فلم أستطع الجواب، ولكن أم خالد تداركت الموقف وقلت له “زوجها يعمل في لبنان”. نعم لم أستطع الجواب لأن زوجي كان يقاتل على الجبهة هو وإخوتي وكل شباب القرية. ولم أعد أحسّ بيديّ ترتجفان من الخوف.
واستطعنا العبور وذهبنا بسرعة نحو المشفى الوطني.
دخلت قسم العيادات النسائية، حيث فحصتني سيدة تعمل هناك، وسألتني: “منذ متى وأنتِ في الشهر التاسع؟” أجبتها بأنني أكملت شهري. فقالت لي: أنتِ لن تلدي اليوم ولا بعد اسبوع. عودي الى منزلك خيرأ لك من الوقوف على بابنا.
مضيت أنا وأم خالد، كنت أحمل هماً كبيراً. أين سألد طفلي، وأنا لا أملك من النقود ما يكفي كي اذهب الى طبيب تخصصي؟ نظرت داخل محفظتي فلم أجد سو ى أربعة الاف ليرة سورية، لا تكفي لشيء. فنظرت إلى السماء وقلت: يا آلهي ما عساني أفعل!
سألت أم خالد: خالتي هل أجد معك بعض النقود، حتى استدين منك مبلغاً، أعيده لك حال وصولنا إلى المنزل؟
فقالت: نعم يا ابنتي، سآخذك إلى طبيبة مختصة.
وفعلا ذهبت معها الى الدكتورة فداء العقاد، وقصصت لها قصتي. أبلغتها أنني لا أملك الكثير من المال، وأني نازحة. تعاطفت معي وقررت ألّا تأخذ مني مبلغاً كبيراً، كما تفعل مع كل من يلد عندها. وفعلا دخلت غرفة المخاض. أعطتني الممرضة إبرة في الوريد، كي يزيد الطلق تسهيلاً للولادة. وفعلا ما هي إلّا دقائق حتّى أحسست أن بطني سينفجر من شدة الألم. سألت الممرضة أن تريحني من هذا الألم الفظيع. فقالت إن إبرة المخدر باهظة الثمن هل يمكنك دفع ثمنها؟ فسكتّ وتحمّلت الألم الذي لا يتوقف. ومن شدّة الألم أحسست أن روحي تريد أن تصعد إلى السماء. ودام الصراخ والبكاء ما يتجاوز الثلاث ساعات. وبعد محاولات مضنية تبيّن للدكتورة أن عضلة الرحم متقلّصة من شدّة الخوف والقصف الذي عشناه في قريتنا. فما كان من الدكتورة إلا أن
اعطتني إبرة مرخيّة، وما هي إلّا د قائق معدودة حتى قالت لي الدكتورة: نعم سيخرج ابنك الى الحياه ساعديني نعم.
بدأت بالصراخ بأعلى صوتي، وتذكرت حينها أمّي وزوجي، فهما أقرب الناس لي، وما حسست إلّا والدكتورة تقول: الحمدا لله على سلامتك. فظرت إلى طفلي نظرة تعيسة وبعدها اغمضت عينيّ. وعندما افقت وجدت ام خالد قد ألبسته. وقالت لي ان الدكتوره تريد أن تقفل العياده وما باليد حيلة علينا الذهاب. قلت لها لا استطيع المشي فانا أتألّم بشدة. فقالت لا يوجد أمامنا سوى الذهاب. أعطينا الدكتورة ثمانية الاف ليرة، وذهبنا. كنت متعبة أحتاج للنوم والطقس حار. فقلت لأم خالد: أنا لم أعد أستطيع المشي. وجلست في الشارع ساعتين تحت أشعه الشمس الحارقة. أبكي ويرمقني المارّة. وبدأت أحس أنّني سأغيب عن الوعي بل عن هذه الحياة. وإذ بسيدة فجأة، تضع يدها على كتفي، وتقول لي: حمدا لله على سلامتك. أعطتني كأسا من الماء وكرسي كي أستريح، حتى وصول الميكروباص الذي أقلّني. ذهبت إلى قرية أبي. ومن فور وصولي قمت بالاستحمام والنوم العميق بعد يوم مليء بالألم. لكن لم أكن سعيده بولادتي لأني بعيدة عن زوجي وأمي وبيتي. كانت ولاده أشبه بالموت. نزوح وغربة وألم. هكذا هي حياه النازح الفقير في بلادنا.
مريم ابراهيم (24 عاماً) من قرية قبرفضه التابعة لسهل الغاب في حماه. احتل النظام قريتها واضطرت للنزوح مع ابنتيها وهي حامل إلى قرى مجاورة، أنجبت طفلها الثالث وهي حاليا نازحة في ريف إدلب.