مئة متر من الخوف في دمشق
أحد أيام شهر شباط فبراير 2015، الساعة الثالثة عصراً. يرن هاتفي في الحقيبة. أمي تتصل بي.
– أين أنت؟
-أنا في التاكسي، عائدة للمنزل.
– حسناً، كوني حذرة. قذائف الهاون تتساقط بكثافة قريباً من المنزل. انتبهي لنفسك.
“حسناً. سأنتبه لنفسي. ولكن كيف لمن يعيش اليوم في دمشق أن ينتبه لنفسه؟ الموت العشوائي يترصد بنا في كل زاوية، ويأتينا في أقل اللحظات توقعاً ومن أكثر الاتجاهات غرابة”.
يقف التاكسي قبل المنزل بحوالي مئة متر. حارتنا كالكثير من شوارع دمشق اليوم مغلقة بحواجز اسمنتية، باتت سمة مميزة لمدينة لم تعتد الشوارع المغلقة، والكتل الغريبة التي تزيد من ثقل الحياة في نفوس سكانها. بعد عشرات حوادث التفجير التي شهدتها العاصمة منذ نهاية العام 2011، تغيرت معالم المدينة واتجاهاتها، انتشرت الحواجز البشرية التابعة للجيش وأفرع الأمن المختلفة في معظم الأحياء. حتى أن بعضهم استطاع إحصاء أكثر من 300 حاجز داخل دمشق وعلى أطرافها العام الفائت. أما في المناطق القريبة من المقرات الأمنية والأماكن الحيوية كالبنك المركزي ومبنى المحافظة، فتم إغلاق الطرق بشكل نهائي بكتل حديدية واسمنتية رسم على الكثير منها العلم السوري “ذو النجمتين الخضر”. هذه الطرقات أعيد فتحها قبل بضعة أشهر.
بعد كل هذه التغييرات، أخال اليوم أن هذا هو حال مدينتي منذ الأزل، وأنسى في كثير من الأحيان كيف كان شكلها قبل أربع سنوات، كيف كنا نتحرك بحرية حتى في أضيق أزقتها، وكيف كنا نشعر بأننا نمتلك كل خفاياها وأسرارها. هي اليوم ذات المدينة لكنها تبدو غريبة، وقاسية، وجافة إلى حد مؤلم.
إذاً هي مئة متر، عليّ أن أقطعها سيراً على الأقدام، وفي كل متر منها قد ألقى مصيراً مجهولاً. فقذائف الهاون العشوائية باتت حدثاً شبه يومي في دمشق، لم تنجُ منه أي منطقة فيها. لا أذكر بالضبط متى بدأت تلك القذائف بالتساقط فوق رؤوسنا، هل هما عامان أم أكثر؟ لا يهم. كل ما أذكره أنني كنت أحس بالخوف الشديد لدى سماعي لذلك الصوت الجاف لارتطامها بالأرض، وهو خوف بدأ بالزوال مع الأيام ليغدو لا مبالاة غريبة من نوعها. من أين تأتي تلك القذائف؟ اجتهدنا كثيراً لمعرفة مصدرها وتحليل اتجاه سقوطها، نعم الكثير منها يأتي من طرف الجيش الحر، الطرف الذي أعتبره “صديقي”، والكثير منها أيضاً آتٍ من طرف النظام، الطرف “العدو”. لكن، هل ستغير هوية القاتل من شيء؟ الموت هو الموت، لكن عليّ أن أقول بأن الموت على يد “صديقي” أكثر إيلاماً من الموت على يد “العدو”.
إذاً هي مئة متر، وكعادتي حين أقطع تلك الأمتار المئة تتزاحم الأفكار في رأسي. أين عليّ أن أمشي؟ هل الجهة اليمنى أم اليسرى هي الأكثر أماناً؟ هل عليّ أن أسرع أم من الأفضل أن أمشي ببطء؟ مصيري في هذه الأمتار المئة تحكمه الصدفة. فالمكان الذي ستسقط فيه القذيفة، والاتجاه الذي ستتطاير به الشظايا غير قابل للتوقع. قد تتسبب خطوة ما زائدة أو ناقصة في موت محتم، أو حياة جديدة. أتذكر جارة صديقتي والتي توفيت نتيجة تطاير شظية من منزل في البناء المقابل إلى الغرفة التي كانت تجلس فيها، لتستقر في رأسها مسببة وفاتها على الفور. ترى هل كان سيخطئها الموت لو كانت جالسة في غرفة أخرى؟ أم أن قدرها سيلاحقها أينما ذهبت باعتبار أن “اللي كاتبو الله بدو يصير”؟
أنصت بشكل جيد للضجيج حولي في محاولة مني لسماع صفير قذيفة الهاون قبل سقوطها، والذي قد يمنحني بضع أجزاء من الثانية كي أغير مصيري. وأفكر: هل من الأفضل أن أنبطح، أم أختبئ وراء شجرة أو سيارة إن سمعت ذلك الصفير المشؤوم؟ كثيراً ما أرى في أحلامي بأنني أقف في غرفتي قرب النافذة، وأشاهد قذيفة تتجه نحوي بسرعة ثم ترتطم بوجهي كقبضة ملاكم صلبة، فأترنح وأتهاوى أرضاً دون أن أصاب بأذى. وفي أحلام أخرى أرى قذائف تُطلق وتتجه نحو السماء وتختفي دون أن تغير مسارها نزولاً وتلامس الأرض. وأقول لنفسي: لماذا لم يخترع الإنسان قذيفة تطير في الهواء ثم تتلاشى؟ لمَ على القذيفة أن تلامس سطحاً ما وتنفجر؟ وماذا لو لم تجد سطحاً لتلامسه؟ هل ستكمل مسارها نحو اللاشيء؟ أفكر في آثار قذائف الهاون والتي باتت تمتلئ بها معظم شوارع المدينة، حفرة صغيرة يميزها وجود آثار مئات الشظايا حولها، وأتذكر إحدى القذائف التي سقطت على كشك صغير يبيع الجرائد والبسكويت والسكاكر، احترق الكشك ومات صاحبه، لكن آثار القذيفة وشظاياها لا زالت على الرصيف والجدار المجاور له.
تنتهي الأمتار المئة، أصل إلى المنزل وأنا أعلم بأنني اليوم أكثر حظاً من غيري. وقد أكون الأقل حظاً غداً أو بعد غد. فدمشق اليوم مدينة الصُدَف ليس إلا.