ليلة في قبضة الأمن الجنائي

في عتمة تلك الزنزانة الباردة كنتُ قد جثوت بزاويتها أتأمل جدرانها الباردة وأرضها المتسخة، وبعض الأكياس من الخيش كانت قد وضعتها أيديهم القذرة، لتردع قليلا من ذاك الهواء الشديد الذي بدأ يتسلل إلى أحشائي وينخر في عظامي. كانت بعض الحشرات تخرج من ذاك الكيس العفن لتستقر داخل ثيابي، علّها تلقى قليلا من الدفء قبل أن تلقى حتفها متجمّدة من شدّة البرد.

كنت لا أشعر سوى بحرارة دموعي، كانت تنهمر كشلال دافق كلما تذكرت أن في الزنزانة المجاورة يجلس أخي الصغير وحيداً. ينخر عظامه ذاك البرد القاتل، تنهشجسده تلك الحشرات القذرة. أما في الزنزانة الأخرى فيرقدُ أبي الرجل الخمسيني، مع مجموعة من الرجال المتقاربي العمر. كانوا يواسون بعضهم بعضاً، فهذا ولده شهيد وذاك ابنه معتقل والآخر ابنه مفقود. وكان أبي مشغول البال، فأنا وأخي بين يدي الظلام، لايعلم بحالنا إلّا رب العباد، فما كان له إلّا أن يسلم أمرنا لرب العباد ويدعو الله لنا بالنجاة والعفو والعافية.

في تلك الليلة لم تفارقني أحداث ذاك اليوم، 19 كانون الثاني/يناير 2013، أخي الصغير بين أيديهم القذرة، من هنا لطمة وهنا لكمة.أحدأولئك القذرين كان يسوقه من شعره ليبرحه ضرباً أمامنا أنا وأبي. كنت أتمنى في كل لحظة أن أخفف عنه بعض تلك اللكمات. كنت أبكي وقلبي يحترق على ذاك الشاب الذي خارت قواه بين ايديهم. اقترب أبي من ذاك الحقير يتوسله، ويقول له خذه بعيداً، لاتضربه أمامي فقط خذه وابتعد.

ما إن وصلنا إلى ذاك البناء النجس، حتى بدأوابألفاظهم القذرة، وبتهديداتهم لنا بالقتل إن لم نعترف بأشياء لانعلمها. كان أبي يتوسط لنا. كنت أمسك بيده اليمنى وأخي باليد اليسرى، كنت وأخي نشدّ على يديه، نطلب بعضاً من الأمان، ولكن ماكان بيده حيلة، فحاله كحالنا. كنت أشعر بتلك الرعشة التي تسري في عروقه خوفاً علينا من تلك الوحوش الضارية. وما إن حاول أبي أن يتكلم حتى لكمه أحدهم على جبهته وبدأ يهدد بإنزاله إلى النظارة ليبدأوا بتعذيبه.

سيدة تحمل كيس وتسير في أحد الأحياء في حي الأنصاري في حلب. تصوير: حسام كويفاتية

في تلك اللحظة لم أكن أستوعب مايجري من حولي. انكبّيت على يدِ ذاك الحقير النجسة وبدأت بتقبيلها، وأنا أتوسل إليه أن يترك والدي ويعفو عنه. مرّت تلك اللحظات في ذهني سريعاً، إلى أن قاطعني صوت لكمات، كنت قد سمعتها وأنا داخل زنزانتي. كان أخي في الخارج

يذوق من مرارة حقدهم. أخي الذي ودّعني وكأنّها آخر مرة يراني فيها قبل ان نقترق كل منا في زنزانته. لم يكن في يدي حيلة سوى أن أدعو له بأن يخفف الله عنه تلك الآلام. كنت أشعر بأبي تماماً. كنت أشعر أن قلبه يعتصر ألماً وهو يسمع أنين ابنه الأصغر.

لم أشعر بما حولي وأنا أصلّي وأدعو له بالسلامة. وبعد قليل من الوقت فتح باب زنزانتي، فإذا بأحدهم يعمل على إخراجي منها وهو يمسكني من طرف كتفي وينهرني بقوة. في القاعة التي اقتادني إليها بدأ المحقق بالصراخ والكلمات البذيئة. كانوا قد أخذوا من بيتنا أثناء التفتيش عدداً من الأسطوانات المدمجة التي تحتوي على ألعاب وأغاني وأفلام عادية. كانت غرفة التحقيق تعج ببعض العناصر الأمنيين، فخاطبني أحدهم سائلاً: “أليس من المعيب أن تشاهد فتاة مثلك هكذا أفلام؟” وبدأوا يوجهون لي التهم، وبأنني أتعاون مع تنسيقيات عديدة.

مرّ الوقت سريعاً وعدت إلى زنزانتي الصغيرة، والتحفت بتلك الأكياس القذرة، علّي أخفّف بعضاً من ذاك البرد. كنت أدعو بدعاء سيدنا يونس عليه السلام: “لا إله إلّا أنت سبحانك اني كنت من الظالمين”. وبقيت أدعو به حتى غفوت. صحوت على آذان الفجر يصدح الله أكبر الله أكبر. جثوت في تلك الزاوية أفكّر بأخي وأبي، ماحالهما وما يصنعان؟ كيف قضيا تلك الليلة اللعينة في جوف ذاك الظلام الدامس والبرد القارس؟

مرّ الوقت في تلك الحجرة الكئيبة كسنين طويلة. كنت أفكّر بالأيام القادمة ماذا ستفعل بنا. كنت أفكّر بأصدقائي وأقربائي وجيراني. كنت أفكّر بأمي تلك المسكينة التي أخرجونا نحن الثلاثة من أمامها، وظلّت وحيدة بين جدران ذاك المنزل الذي حوّلوه لخرابة. كنت أعلم أنّها في تلك الليلة لم تنم. ظلّت ساهرة طوال تلك الليلة تدعو وتتضرع لربها تعالى علّها ترانا من جديد بخير وسلام.

وحلّ المساء بعد وقت طويل جداً من التفكير والبرد والتعب النفسي، ورجعت الزنزانة لعتمتها وظلمتها. طوال ذاك الوقت لم تتوقف شفتاي عن الدعاء والتضرع لله وقراءة القرآن .كان هذا سلاحي ومنفذ نجاتنا الوحيد.

وفي ظلمة تلك الحجرة الحقيرة وفي حوالي الساعة العاشرة ليلاً جاء الفرج، وفتح شباك الزنزانة الصغير، ورأيت أخي وأبي برفقة الضابط الذي توجّه إلي بالقول: “أخبري أبيكِ هل أنتِ بصحة جيدة؟ هل أزعجك أحد؟” كنت أرى في عينيه نظرات الخوف والقلق. قال الضابط: “سنفرج عن أبيكِ وأخيك وأنتِ سنفرج عنكِ غداً صباحاً”. ومدّ أبي يده من تلك النافذة. أمسكت يد أبي وقبّلتها بشدّة. كنت أشعر بسعادة غامرة، أحسست ببعض الراحة النفسية. قلت له: “اطمئن أنا بخير، وطمئن أمي أنني بخير”.

أغلقت النافذة وعدت فوراً وسجدت لله سجدتي شكر، ورجعت لأجلس فوق تلك الأكياس النتنة. وبعد عدة ساعات كنت قد أحسست بالجوع، بعد 24 ساعة من الصيام، أو أنها الراحة النفسية قد جعلتني أسترخي لأشعر بقليل من الجوع. كان حارس الزنزانة قد قدم لي في وقت سابق سندويشا، لكنني رميته جانباً حينها… أحضرت السندويش لأقضم منه بعض اللقيمات. ضحكت ضحكاً شديداً، فقد كان سندويش كباب. وبعد اللقمة الثانية، وحوالي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، فُتِحَ باب الزنزانة، وأطلّ ذاكَ الحقير، وبصوته القبيح قال لي: “إفراج”. طبعاً كانت واسطة من النوع الثقيل تلك التي أخرجتنا من هذا الكابوس القذر.

قمت بآخر الإجراءات، وقبل استلام الهوية كان لا بدّ من ذاك السؤال الروتيني:

“ندمانة يا بنتي؟

“ندمانة يا سيدي، والله ندمانة بس طالعوني بقا من هون”.

قضينا آخر يوم في مدينتي الحبيبة إدلب، هربنا بعدها إلى تركيا.

 

بهجة معلم (22 سنة)من مدينة إدلب،كانت تشارك بالمظاهرات وتصورها وتنشرها على اليوتيوب،وتقود المظاهرات النسائية. اعتقلت مع أخيها وأبيها ليومين.تركت دراستها في العلوم السياسية ولجأت مع أهلها إلى تركيا.