ليلة حمراء بالقذائف
ضجيج سلاسلها الضخمة يعلو شيئاً فشيئاً، ضوء قذائفها يلتهم ظلام الليل، صوتها يقطع الأنفاس. كانت ليلة الخميس في الشهر التاسع من سنة 2012 ، الساعة الحادية عشر ليلاً، كنا قد قررنا الخلود إلى لنوم. أبي في غرفته الخاصة كالمعتاد، وأخي أيضاً. أمّا والدتي فكانت لا تزال في منزلنا في العاصمة دمشق مشاعرها الرقيقة وقلبها الطيب لا يحتمل العيش داخل الغوطة الشرقية، التي تتعرض مدنها وبلداتها في كل يوم لحالات اقتحام و إطلاق نار عشوائي ومداهمات وغيرها الكثير من الأعمال العدائية بحق المدنيين العزل.
منزلنا داخل الغوطة الشرقية يقع على مقربة من الطريق العام، الذي يشهد مرور المدرعات والدبابات. ذاك اليوم لم نستطع النوم، بعكس أبي الذي لم يكترث للأمر. بينما أخي أخذ أمام شاشة الكمبيوتر موقعاُ له في محاولة منه لمعرفة ما يجري على بعد خطوات منا.
إنه لمن المستغرب أن نبحث عمّا يجري من حولنا وخارج جدران منزلنا من خلال الشبكة العنكبوتية. هذا في حال عدم انقطاع خدمة الانترنت بشكل متعمد كما يحصل عادة قبل أي عملية عسكرية. وفي حال حدوث ذلك نهرع إلى القنوات الإخبارية، نترقب خبراً عاجلاً من هنا أو من هناك لمعرفة مايجري. جميع القنوات “الإخبارية” تتسابق على نقل الأحداث الجارية في الداخل السوري. الثورة السورية كانت ما تزال في أوجها، والمناطق المنضمة لها معدودة. وكل الأخبار السورة عبارة عن سبق صحفي له أهميته والأولوية على الشاشات. هذا كان في زمن مضى.
كان من الصعب جداً لمن هو في المنزل أن يدرك ما يحدث في الخارج. نطلق لمخيلتنا أن تتكهن ما يجري، فيما الخبر اليقين نجده فقط لدى أصحاب القلوب القوية الذين يتجرؤون على الخروج إلى الشوارع لمعرفة الأحداث الميدانية ونقلها إلى شبكات التواصل الاجتماعي.
في تلك اللليلة أذكر كيف كانت الأصوات تقترب، وأزيز جنازير الملالات يعلو أكثر فأكثر. هرعت مسرعة إلى غرفة والدي، أرقب المشهد من النافذة التي تكشف المنطقة من حولنا بشكل أفضل. كانت الأضواء الصادرة عن القصف كالمفرقعات. كان يزداد قلقي كلما غيّرت الدبابات مسارها لتدخل الأحياء السكنية. هذا معناه أن الوضع سيصبح أصعب بكثير ومخيف بدرجة لا توصف. بينما تقترب الأصوات التي يتخللها رشقات عنيفة من الرشاشات. من المحتمل أن يكون الجيش الحر في ذلك الأثناء يخوض اشتباكاً مع الدبابات التابعة للجيش التابع للنظام، التي من المرجح أنها تحاول التوغل.
في خضم تلك الأحداث كانت الأصوات الصادرة عن والدي النائم تطمئنني، وتدخل إلى قلبي شيئاً من الهدوء والسكينة. لكن ذلك لم يمنعني من إيقاظه على عجل لكي يغير مكان نومه. فالبقاء في هذه الغرفة خطر لاسيما أنها تطل على الشارع، و لا يوجد أي بناء أمامها، مما يزيد احتمال تعرضها لقذيفة عشوائية. وبعد إلحاح طويل تمكنت من اجباره على مغادرة فراشه للمبيت في الغرفة الخاصة بالضيوف فإنها بعيدة نوعاً. استسلم والدي، وهمّ بمغادرة المكان وهو يبتسم ويقول: “لماذا كل هذا الخوف، الأصوات بعيدة”. برغم كلماته تلك إلا أنني لم أقتنع، فالخوف يتسلل لداخلي ويتملّكني. من الصعوبة الخلود للنوم والموت يجول في الأرجاء.
عاد أبي ليستسلم للنوم. أمّا بالنسبة لي فتمركزت خلف أخي القابع أمام شاشة الحاسوب، أرقب ما يتصفحه من أخبار تخص ما يجري حولنا. هناك من يقول أنها اشتباكات على خلفية منع محاولة جي النظام من اقتحام الأحياء السكنية. بينما آخرون يتحدثون عن استدعاء تلك الدبابات لمناطق ساخنة تشهد حالات اشتباكات حادة، تكثر وتتعدد الأقاويل والتكهنات.
بينما كانت الأصوات تملأ المكان، كانت تواجهنا في المنزل مشكلة ضعف إشارة النت، نتيجة موقع المودم، مما اضطرنا للبحث عن وصلة أكثر طولاً لكي نمررها لخارج الغرفة من خلال النافذة. بعد طول بحث نجحنا بذلك، لتواجهنا مشكلة آخرى تمثّلت بالضوء القوي المنبعث من تلك الأداة الصغيرة. ذاك الضوء الذي يمكن أن يثير انتباه القناصة التي تحيط بالمدينة، لاسيما القناص القابع في نهاية شارعنا. أدخلنا تلك الوصلة الخاصة ببث المودم للفها بما يقلل من حدة ضوئها المنبعث. ما إن انتهينا ووضعنا عليها بعض الملصقات، حتى انقطعت اشارة النت بشكل كامل لنضحك للأمر ونغضب في آن. كانت إشارة المودم الحمراء الصغيرة مصدر خوفنا بنفس درجة الأضواء الحمراء الضخمة التي خلفتها القذائف التي أشعلت سماء المنطقة.
في تلك الليلة تابعت الدبابات شق طريقها المضاء بقذائفها النارية الخارجة من فوهاتها العتيقة نحو مدينة ما لتنشر المزيد من الخوف والألم والموت.
مرام سعد (24 عاماً) ولدت في إحدى مدن الغوطة الشرقية في ريف دمشق. متطوعة في الهلال الأحمرمنذ 6 سنوات. خلال الثورة كانت متظاهرة ومسعفة ميدانية وناشطة إعلامية من العاصمة دمشق، عملت مع عدة وكالات إخبارية محلية. مرّت بأوقات صعبة خلال إسعاف المصابين أعنفها وفاة والدها بين يديها عام 2014 بعد نزوحهم إلى مدينة دمشق.