لن أرحل حتى زوال الألم
الصدر الحنون والملاذ الآمن لجميع المرضى. تعاينهم وتقدم لهم الدواء مجاناً، في الوقت الذي أخذ فيه معظم الأطباء يتنافسون لجمع الأموال وتكديسها. هي “أم الفقير” كما كانوا ينادونها، ولم تكن قد بلغت الـ 35 من العمر. هي الطبيبة ريم الشحنة من مدينة معرة النعمان، تخرّجت من جامعة حلب عام 2011، اختصاص طب أطفال.
تقول الطبيبة ريم: “لقد اخترت هذا المجال من شدة حبي للأطفال، وعندما اشتعلت نار الثورة في سوريا، وشملت جميع المناطق، آلمني استخدام النظام (الحاكم في دمشق) أعتى أنواع الأسلحة في وجه شعبه الأعزل لمجرد تفوههم بمطالبهم المحقة، وشعرت حينها أن دور الأطباء أصبح ملحّاً، وبدأت الحاجة إليهم تزداد يوماً بعد يوم تزامناً مع تصاعد وتيرة العنف”.
حينها قررت الطبيبة ريم أن تقف إلى جانب أبناء شعبها، وأن تساعدهم بكل ما تستطيعه، احتراماً للمهنة الإنسانية التي اختارتها. أصبحت ريم تستقبل المرضى في عيادتها منذ ساعات الصباح الأولى وحتى وقت متأخر من الليل. ترافق سيارة الإسعاف إلى أماكن القصف لإنقاذ المصابين والتخفيف من آلامهم. تؤمّن الأدوية النادرة لمرضاها بمساعدة زملائها من أطباء وصيادلة. تستقبل حالات الإسعاف في جميع الأوقات دون تذمّر أو ملل.
تردف الطبيبة قائلة :”أثناء معركة تحرير مدينة معرة النعمان في العام 2012، جنّ جنون النظام، وبدأ يمطر المدينة وريفها بوابل من القذائف والصواريخ، وبدأت حركة النزوح بين الأهالي حتى الأطباء بدؤوا يهاجرون الواحد تلو الآخر إلى خارج البلاد. كان أخي الطبيب الجراح بينهم، سافر إلى إحدى دول الخليج العربي. هناك وجد عملاً مناسباً في إحدى المشافي الضخمة. قلّة عدد الأطباء جعلت المسؤولية تزداد على عاتقي، نزحت مع عائلتي إلى إحدى القرى وتابعت عملي دون أن يغير النزوح من الأمر شيئاً حيث كانت العيادة تعج بالمرضى يومياً.”
تلقت ريم اتصالاً من أخيها الطبيب بعد فترة من سفره، يزف إليها خبر إيجاد عمل لها في نفس المشفى حيث يعمل، وبمرتب مغرٍ، ووضع مريح وحياة كريمة بعيدة عن الخطر وأصوات الانفجارات والعمل الشاق المضني. وجدت الطبيبة نفسها أمام خيارين، إمّا أن تبقى لتساعد الناس من أبناء شعبها وتخفف من آلامهم ومعاناتهم وتساعدهم في إبعاد شبح الموت عنهم، أو أن تذهب إلى حيث الأمان والأماني البراقة والمال الوفير.
ذهبت ريم إلى محافظة إدلب للحصول على وثيقة جواز السفر. وحين عادت وجدت المرضى يتزاحمون أمام باب العيادة حاملين أطفالهم الأبرياء، الذين جاؤوا إلى الدنيا ليجدوا الدمار والقصف والشقاء والبؤس أمامهم. نظرت إلى الطفل معن المصاب بمرض السرطان، وهو طفل يتيم تأتي به أمه كل فترة للمعاينة. تقول ريم عن هذا الطفل “كان يحبني كثيراً كما أحبه، عندها تساءلت في نفسي: لمن سأترك هؤلاء المرضى؟ ماذا سيحل بهم بعد سفري؟”
في تلك اللحظة وقبل أن يجد الشك أو التردد طريقاً إلى قرارها الحاسم بعثت برسالة إلى أخيها مفادها :”لن أرحل، سأظل إلى جانب إخوتي وأبناء بلدي حتى . حياتي لن تكون أغلى من حياتهم، ولن أتخلى عنهم في أصعب الظروف وأحلك المواقف، سأناضل معهم بقوة وعزيمة لتحقيق أهدافنا المجيدة ورغباتنا السامية، ونتحمل المتاعب والمصاعب ونسير فوق الأشواك من أجل الحياة الحرة الكريمة.”
معن أصيب بمرض السرطان منذ نعومة أظفاره وهو لا يزال في السادسة من عمره، تقول أم معن (٢٧عاماً): “فلذة كبدي معن متعلق بالطبيبة ريم كثيراً، يرغب بزيارتها يومياً، ينسى ألمه حين تلاعبه وتمازحه وتقدم له الهدايا. تعطيه الأدوية والمسكنات مجاناً، إنها ملاك الرحمة لأبناء المنطقة كلها بكل ما يعنيه الوصف من معنى، لا نتخيل حياتنا من دونها، أعلم جيداً أن وضع صغيري سيسوء كثيراً إذا هاجرت بعيداً وتركته.”
والدة ريم في الخمسين من عمرها تتحدّث عن ابنتها الطبيبة وتقول: “نسيت ابنتي نفسها من أجل غيرها، إنها صاحبة خلق نبيل لا يتصف به إلا من سمت نفسه وارتفعت إلى المستوى البطولي الرفيع، رفضت الزواج من كل من تقدم لخطبتها حيث لا وقت لديها لتكوين أسرة، إنها تقضي ريعان شبابها وربيع عمرها بين المرضى والأدوية وسيارات الإسعاف دون أن يعرف الملل أواليأس طريقاً إلى قلبها.”
تختم الطبيبة ريم كلامها بالقول: “صحيح أن المرء يستطيع أن يكيّف حياته بالشكل الذي يريده ويرضاه، ولكن في الحياة ما لا يخضع لإرادتنا وعلينا تقبّله حتى ولو كان بمرارة العلقم، لقد شاءت إرادة الله أن نمر كسوريين بحوادث صعبة ولكنها في نفس الوقت مقاييس لإنسانيتنا وقدرتنا على الصبر وتحمل الصعاب، علينا أن نرحم بعضنا حتى نجد من يرحمنا ونكون قلباً واحداً إلى أن يمدنا الله بنصره وفوزه العظيم. ”
دارين الحسن (30 عاماً) متزوجة وأم اربعة اولاد. كانت تعمل في مجال التعليم قبل الثورة وحاليا في ميدان الصحافة، نزحت من بيتها في معرة النعمان واستمرت رحلة نزوحها ثلاث سنوات وهي تعيش الآن في مدينة معرة النعمان في ريف إدلب.