لم تجر الرياح كما اشتهت سفينة شابة سورية في تركيا
شابة سورية تشارك في إحدى المظاهرات المناهضة للنظام السوري وتحمل لافتة في مدينة درعا جنوب سوريا
"قررت ترك العمل وعدم التفكير به مجدداً، طالما أن الحال نفسه في كل مكان، وعدتُ مجدداً لوضعي السابق..."
كُنتُ كجميع الفتيات، فتاة لها أحلامها وطموحاتها وأهدافها في هذه الحياة، إلّا أن القدر لم يحالفها ولم يقف الحظ في صفها يوماً. ولم تجرِ الرياح يوما كما اشتهت سفينتها.
أكثر ما أحببته على هذه الأرض هو الكتب بكافة ألوانها وأنواعها وأشكالها. ولطالما أحببتُ اقتناءها، وأشعر أن حياتي لا شيء بدونها، فهي الركيزة الأساسية التي استند عليها، إلا أن الأقدار شاءت أن اتخلى عن كتبي لأسباب لا يسعني ذكرها.
كوني أعيش في تركيا، تمكنت من إتقان اللغة التركية بعد أن أمضيتُ قرابة عامين في الجامعة. لم ترق لي فكرة الجلوس الدائم في المنزل دون أي تغيير يُذكر، فهذا الروتين (سم قاتل) بالنسبة لي.
بدأت البحث جاهدةً عن طرقٍ توصلني لبر الأمان بنظري، فلم أجد سوى أن أبحث عن عمل، لعل وعسى ألقى بعونِ الله مرادي… نمت الفكرة في ذهني واستوطنت ولم اتخلَّ عنها لحظة. وبدأت بكل مافيَّ من طاقة أبحث عن فرص عمل تناسبني.
وكانت مواقع التواصل الاجتماعي الملاذ الأول، ومراقبة الإعلانات الرائجة فيها، ومن ثم بدأت البحث في المدارس والمعاهد والمراكز الحكومية والمستشفيات. بحثتُ مطولاً، واستمر البحث أشهراً لم احظَ بِفُرصةٍ واحدة.
لعب الحظ دوراً كبيراً في ذلك، ولم يحالفني أبداً. دخلتُ حالة من الاكتئاب لم تحدث معي من قبل. لكنني واصلت الصبر والدعاء ولم اقنط من رحمةِ ربي. كنت أعلم أن في طَيّاتِ هذا الانتظار والصبر العظيم ما سيذهلني حقا ويزيح غمامةً عن قلبي.
إلى أن جاء ذلك اليوم. تلقيت اتصالاً من رقمٍ مجهول. صوت رجل ذكر اسمي وتحدث معي وأخبرني أنّه مديرٌ لإحدى المدارس وينقصهم مدرّسة لغةٍ تركية في كادرهم وإن كان باستطاعتي العمل. وحدد لي موعداً في اليوم التالي لأجل الحديث بالموضوع بشكلٍ مفصل أكثر.
سُررتُ كثيراً باتصاله وأسعدني ذلك. شعرت حينها أن أموري بدأت تسير كما أريد بمشيئة الله.
وفي صباح اليوم التالي عزمتُ على الذهاب إلى الموعد ولم أكن أهتم لأمر الراتب، فقد كنت حينها اريد فقط الخروج من المنزل وإفراغ الطاقة الكامنة بداخلي دون النظر إلى أي شيء آخر.
وبعد أن انتهيت من المقابلة، أيقنت حقاً أنه ليس هناك من راتب مقابل عملي، لثماني ساعات في اليوم، دون توقف. لكنني لم أُبدِ أي ردةُ فعل لأنني أحب الأطفال كثيراً، واحب التعامل معهم…
بدأت بالعمل وشيئاً فشيئاً بدأتُ أشعر بالتعب. وبدا الإرهاقُ واضحاً على وجهي وخارت قواي بالكامل بعد ثلاثةَ أشهر من دون أن أتقاضى قِرشاً واحداً. وعندما تحدثت مع مدير المدرسة، أخبرني بأن مدرسته تواجه حالةً من الضغط الشديد وعلي تحمل هذه الفترة إلى أن تنتهي هذه الأزمة.
لم اعترض على كلامه وقابلته بالصبر مرة أخرى، ولكنني كنت أجهل حقيقة الأمر. لم يخطر في بالي أبداُ أن تكون المدرسة عبارة عن مشروع ربحي. تعمل فيه العائلة بِرُمّتها، وليس هذا فحسب بل وقد كان أغلب الكادر ليسوا من حَمَلةِ الشهادات الجامعية بما في ذلك المدير.
المدرسة كانت عبارةً عن مشروع خاص يحصل المدير من خلاله على مبالغ ضخمة من الطلاب، الذين كان أغلبهم من الطبقة الفقيرة وعوائلهم بالكاد تؤمن قوت يومها. فقراء أرادوا أن يعّلموا أولادهم، لا يريدون لهم أن يعيشوا حياةً كَحياتهم ولو كلفهم الأمر العمل ليلَ نهار.
أمضيتُ شهراً تِلو الآخر أنتظر أن يُرفعَ اسمي للتربية التركية كي أتسلم راتبي. وفي كل شهر كان المدير يقول لي هذا الشهر والشهر القادم. إلى أن أتممت 8 أشهر حينها اكتشفتُ حقيقة الأمر. وأدركتُ أنه مديرٌ في الكذب وخداع الناس.
كان قد رفع اسم اخته عوضاً عن اسمي للتربية التركية وهي التي تستلم المُرّتب الشهري بدلاً عني لأنها كانت أيضا تجيد اللغة التركية ولكنها كانت ما تزال تدرسها ولم تكن موجودة في المدرسة أساساً. أنا كنتُ قد استلمتُ التدريس وهي كانت من تستلم الراتب.
لم أستطع تحمل الحال الذي وصلت إليه. لم أعرف ما الذي عليَّ فعله، وفي الوقت ذاته شعرتُ بأنني لا أريد أن أسكت ولن أجعل الأمر يمرُّ هكذا. بالرغم من أن كل ما أفعله بعد الآن لن يوصلني لنتيجة ترضيني.
ولكنني لم أتراجع فقررت الذهاب إلى مديرية التربية وان التقي بالمسؤول شخصياً بعد أن تركتُ المدرسة. التقيتُ به وبُحُتُ له بكل ما في داخلي، وقد كان رجلاً متعاوناً متفانياً، وعدني أنه لن يتم تمرير الأمر بهذه السهولة التي يظنها مدير المدرسة وستتم معاقبته بشتى الوسائل.
أما بالنسبة لي فلا يوجد أي دليل رسمي بأنني كنت أعمل في هذه المدرسة. ولم تمضِ أيام قليلة إلا وكان قد جاءني خبر بأنه إغلاق المدرسة بالشمع الأحمر وتعرض المدير للسجن، لأن الشكاوي كانت كثيرة ضده ومتراكمة ومن جهاتٍ عدة. وقد نال ماكان يجب أن يناله منذ زمن.
وعدتُ للجلوس مجددًا في المنزل قبل أن أبدأ بالبحث عن عملٍ آخر. وبعد فترة من الزمن عملتُ في أحد المعاهد حيث منذ اللحظة الأولى وعدتني المديرة بأن الرواتب ستتحسن بل ستكون قيّمة. واستمريت بعملي كالبقية إلى أن جاء موعد القبض ولم يحدث أي تغيير يُذكر.
واستمر التأجيل بحجة أن الجهات الداعمة لم تعد مهتمة بهذا المشروع وجارِ البحث عن جهة أخرى. يجب أن نستمر بعملنا وأن لا نيأس، بهذه الكلمات كانوا يحفزوننا، إلى أن اتممتُ 5 أشهرٍ على ذاتِ الحال.
وفي النهاية لم أعد أستطيع أن أتحمل أكثر. استمر الوضع ذاته في كل مكان أذهب إليه وأعمل فيه. قررت ترك العمل وعدم التفكير به مجدداً، طالما أن الحال نفسه في كل مكان، وعدتُ مجدداً لوضعي السابق…
رحاب مصطفى (22 عاماً) من حماة.