لماذا الصمت الكردي اتجاه التظاهرات في سورية؟

مسعود عكو

 أثار الصمت الكردي اتجاه ما يجري في سورية الآن، جملة من التساؤلات المشروعة وغير المشروعة. فقد اندلعت تظاهرات واحتجاجات أدت إلى أحداث دامية في درعا جنوب البلاد، وأسفرت عن مقتل العشرات من سكان مدينة درعا وريفها، وذلك على إثر اعتقال مجموعة يافعة دون السن القانوني مما حدا بالأهالي إلى المطالبة، في الشارع، بإخلاء سبيل الموقوفين الصغار. غير أن انتقال تلك الاحتجاجات إلى مدن سورية أخرى، كاللاذقية ودمشق وحماه وحمص والرقّة، دفعت بمراقبين كثيرين إلى التساؤل عن الصمت الكردي وخلفيته.قبل الدخول في التحليل، تجدر الإشارة إلى إن المعارضة الكردية لطالما كانت واضحة في ما تصبو إليه. وتناضل الحركة الكردية في سورية، منذ نشأة أول حزب سياسي كردي في 14 حزيران 1957، وحتى اللحظة، من أجل الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في سورية، وفق شرعة الأمم المتحدة وحقوق الإنسان. ولم تساوم الحركة الكردية، أياً كان توجهها على هذه الحقوق، ولو أن بعض أطرافها يعلن عن حقوق ثقافية بسيطة، إلا أن الأحزاب كلها، في أدبياتها الحزبية وأنظمتها الداخلية، تطرح المطالب نفسها، ولو أن بعضها لا يعلن بشكل مباشر.

 من خلال مسيرة نضال الشعب الكردي، في سبيل نيل حقوقه القومية المشروعة، ضد الأنظمة التي تناوبت على حكم دمشق منذ استقلال سورية وحتى الآن، لم تتنازل الحركة الكردية عن مطالبها، وكانت دائماً تريد من الأنظمة الحاكمة حقوقها القومية، مع تمسك الكرد بوطنيتهم السورية، نافين بشكل دائم أي تصور كردي سوري بالاستقلال عن البلاد،. بل على العكس تماماً. فقد دخلت الحركة الكردية في ائتلافات سياسية معارضة للنظام، يداً بيد مع المعارضة العربية، وإعلان دمشق خير مثال على ذلك.

 لكن السؤال الذي يطرح نفسه، ويريد الكثيرون جواباً له هو: لماذا لم يشارك الكرد، في كافة مناطق تواجدهم في سورية، في اي تظاهرات أو احتجاجات تنديداً بما يجري في درعا وغيرها؟ لماذا لم يساندوا الأهالي ويدعموا مطالبهم المشروعة؟ الحقيقة أن لدى الأكراد أكثر من تصور لما يجري الآن في سورية، وعلى إثر تلك التصورات، سيبني الكرد مواقفهم وسيتخذون قراراتهم، إن بالمشاركة في هذه التظاهرات أو عدم دخولها.

 وهنا، لعله من المفيد التذكير بأحداث آذار 2004، حينما اندلعت الأحداث الدامية في مدينة القامشلي شمال شرق البلاد، وعلى إثر تظاهراتها قتلت المخابرات السورية أكثر من ثلاثين شاباً كردياً. كانت الأحداث آنذاك على خلفية مباراة كرة قدم جمعت فريقاً كردياً وآخر عربياً. ولعبت المخابرات السورية دور المتفرج عندما بدأ جمهور الفريق العربي يضرب جمهور الفريق الكردي بالحجارة. ثم سرعان ما رد الكرد تلك الحجارة دفاعاً عن أنفسهم، فما كان من قوات الأمن إلا أن فتحت النار على المدنيين العزّل، فأردت عشرات قتلى، ومئات الجرحى، كما اعتقلت أكثر من ألفي كردي، خصوصاً لما انتقلت التظاهرات والاحتجاجات الكردية إلى مدن داخلية كبرى كدمشق وحلب.

 في ذلك الوقت، لم تقم أي مدينة أخرى داخل سورية بالتنديد بما جرى في حق الكرد. بل على العكس، بدأت ميليشيات مشكلة من بعض القبائل عربية في محافظة الحسكة، وكان قد تم تسليحهم من قبل فروع حزب البعث، بالهجوم على المتظاهرين الكرد، وتهديدهم بالقتل. وقامت بعض تلك الميليشيات بنهب وسرقة محلات تجارية كردية في مدينتي القامشلي والحسكة.

 ووقع الأمر عينه في حزيران 2005، حينما خرج عشرات الآلاف من الكرد في القامشلي، في تظاهرة تنديدية بمقتل الشيخ الكردي محمد معشوق الخزنوي، والذي اختطف من قبل مجهولين، ووجد مقتولاً ومدفوناً في مقبرة في مدينة دير الزور. وهجمت ميليشيات عربية بعثية مسلحة على المتظاهرين الكرد، ضربتهم وسرقت محلاتهم التجارية، وكل ذلك على مرأى من السلطات السورية.

 يشعر الكرد إن موقف المعارضة العربية ما زال ضبابياً اتجاه القضية الكردية في سورية. فمصطلح “القضية الكردية” لا يعجب الكثيرين من المعارضين السوريين من غير الكرد. كما أن رؤية العديد من المعارضين للكرد لا تختلف كثيراً عن رؤية حزب البعث لهم. فغالبيتهم تعتبر الكرد مجرد أقلية موجودة في سورية، يجب إعادة الجنسية للمجردين منها (تم تجريد حوالي ثلاثمئة ألف كردي من الجنسية السورية في إحصاء استثنائي جرى فقط في محافظة الحسكة العام 1962) كما يؤمنون بوجوب “السماح للكرد بتعلم لغتهم الأم”، وكان هذا هو حل “إعلان دمشق” للقضية الكردية. ورغم أن الأمر لم يعجب المعارضة الكردية، فإن أحزاباً كردية عدة شاركت في تجمع إعلان دمشق المعارض، ووقعت معهم البيان التأسيسي للإعلان، سعياً إلى توحيد صفوف المعارضة السورية داخل البلاد وخارجها.

 حذر جداً الموقف الكردي في سورية إزاء ما يجري في البلاد، فهم يريدون معرفة مصير هذه التظاهرات، وهل هي حقاً تظاهرات حقيقية تطالب بإسقاط النظام، على شاكلة ثورات تونس ومصر واليمين وليبيا؟ أم أنها مجرد انتفاضة غضب شعبي استنكاراً لقتل المدنيين في درعا؟ فإذا كان الافتراض الأخير هو الأقرب إلى الحقيقة، فإن الكرد لن يساهموا –كما غيرهم من المعارضين العرب- سوى ببيانات تنديدية ربما تتطور إلى تظاهرات سلمية في بعض المناطق الكردية من البلاد. أما إذا كانت هذه التظاهرات بداية الثورة السورية لإسقاط نظام البعث، فإن الكرد السوريين لن يقفوا مكتوفي الأيدي، بحسب قيادات كردية، بل سيدلون بدلوهم وسيفجرون التظاهرات والانتفاضات ضد النظام في كل مناطقهم.

وينفي الكرد نفياً قاطعاً أي اتفاق ضمني مع السلطة، وخصوصاً بعد السماح للكرد الاحتفال بعيد النوروز، وإحياء ذكرى انتفاضة آذار 2004 في هذا العام بهدوء ودون أي مشاكل تذكر. ولا يرى الكرد في تهنئة المستشارة الإعلامية والسياسة لرئاسة الجمهورية، بثينة شعبان، للكرد بمناسبة عيد النوروز مؤخراً أي اعتراف رسمي بالكرد في البلاد. بل على العكس تماماً، تيقن الكرد أنه ليست هناك أي نية عند النظام لمنح الكرد حقوقاً سياسية أو ثقافية، لا سيما بعدما قالت شعبان في المؤتمر الصحافي نفسه: “أنني تجاوزاً قلت كرد”. أي أن الرؤية الضيقة لا زالت سارية في عقلية النظام اتجاه الكرد.

 إن بين المعارضة الكردية والعربية فجوة هائلة من انعدام الثقة، والتخوف من الانسحابات والانقلابات على الاتفاقيات في ما بينهم. ولا يجد الكردي هنا أي وسيلة للدفاع عن نفسه، لأنه في أبسط الأحوال وحين مباشرته بالتظاهرات سيدفع بالنظام وربما ببعض رموز المعارضة العربية، إلى اتهام الكرد بأنهم انفصاليون ويحاولون ركوب موجة التغيير التي تجتاح العالم العربي، ويقومون بتنفيذ أحلامهم في دولة كردية مستقلة في شمال وشمال شرق البلاد. ورغم كل الدلائل اليقينية، والظروف الجيوسياسية التي ستفشل مشروعاً كهذا، يرى النظام، وبعض رموز المعارضة العربية بكل أسف، في حركات الكرد وتظاهراتهم ومطالبتهم بحقوقهم القومية، مشروعاً كردياً للانفصال. في حين أن الكرد في سورية لا يسعون، في حقيقة الأمر، إلى الانفصال عن الجسد السوري، بالرغم من أحقية الحلم الكردي في دولة كردستان الكبرى المستقلة.

 إن الكرد مستعدون تماماً للانضمام إلى ثورة التغيير في سورية، لكنهم، حتى هذه اللحظة حذرون. لا يريدون أن يكونوا مطية للمعارضة العربية والتي يتفوق عليها الكرد، تنظيمياً وشعبياً. فهذه المعارضة لا تعترف، حتى الآن، بكافة الحقوق القومية للشعب الكردي في سورية، كشعب يعيش على أرضه التاريخية. ولم تتضح بعد وجهة التظاهرات والاحتجاجات. كما أن خروج التظاهرات من الجوامع والمساجد يطرح الكثير من الأسئلة التي قد لا تعجب أجوبتها المعارضة الكردية أو حتى العربية اللتي ترى في نفسهما معارضة علمانية مدنية.

إذاً، بالنتيجة، لن يقف الكرد صامتين اتجاه ما يجري في البلاد. لكنهم يتحلون الآن بشيء من بالصبر والترقب.