لا دراسة ولا تدريس..

رزان زيتونة

مشهد تلاميذ وطلاب المدارس يتظاهرون داخل أسوار مدارسهم وانطلاقاً منها، مشهد تقشعر له الأبدان. أطفال “الطلائع” بالزي المدرسي الأزرق الفاتح، وطلاب المرحلة الإعدادية بالأزرق الغامق، الأزرق يموج ضمن الأسوار الباهتة الألوان لمدارسنا الكئيبة. الأصوات الناعمة والدقيقة أو المخشنة حديثاً، تصدح بلا دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرئيس.

يقال أن أسماء الأسد هي من إختارت هذه الألوان لأبنائنا في المدارس، كمؤشر لا يمكن لعين أن تخطئه حول “التغيير” الذي أصاب سوريا في عهد زوجها. الإنتقال من الخاكي والرصاصي إلى الأزرق بتدرجاته، لم يحل دون إستمرار تكرار أطفال “الطلائع” عبارات الإبتهال للقائد الخالد.  

الأزرق يعلو ويصدح حتى تتكسر أمواجه على هراوات عناصر الأمن والشبيحة. أتساءل بأي قبضة يقبض هؤلاء على سواعد وأكتاف أولئك الصبية والفتيات. هذا الجيل غريب، بقصر قامته ونعومة أجساده. حتى ليصعب التفريق بين تلميذ المرحلة الابتدائية وطالب المرحلة الإعدادية. يخيل لي أن ذراع أحدهم قد تتهشم في قبضة أولئك الأشاوس،  وأن الفارق في الطول والحجم بين الطرفين حري بأن يصيب التلاميذ بالذعر. أنا أشعر بالذعر لمرآهم.

أولئك الأطفال في الأزرق يتراكضون كالسنافر يحيط بهم مئات من شرشبيل الشرير. وليس بيدهم قوى خارقة ولا بابا سنفور حكيم. يصطفون للتحية الصباحية، فيهتفون بإسقاط النظام، في “الفرصة” الأولى بدل تناول سندويش اللبنة والزيت والزعتر، يمزقون كتب التربية الوطنية، ليثبتوا أنهم قليلو التربية البعثية بما لا يقاس، بما كنا نعتقده ونخشاه. في “الفرصة” الثانية يشنون حملة تنظيف من صور القائد الذي لم يعد خالداً بعد أن نزعوه عن عرشه من صدارة الصفوف الدراسية وأسوار المدرسة.

الصغار يتآمرون من غير خبث. تخرج ابتدائية كذا لتلاقي إعدادية كذا. وتنطلق مظاهرة بنات هنا لتلتقي مظاهرة بنات هناك. أتخيل أن الفتية “الحمشين” يغلي دمهم لخروج مدرسة الفتيات فتتبعهم مدرسة الفتيان.

أبنية مدارسنا أصلاً لا تختلف كثيراً عن أبنية السجون. فوجئت أول مرة شاهدت فيها سجن عدرا لدرجة الشبه بينه وبين مدرستي الإعدادية والثانوية. الصورة أصبحت أكثر اكتمالاً اليوم، وباصات الشبيحة والأمن تصطف أمام أسوار المدارس. أتخيل شرشبيل مصاب بشيء من الإرتباك وهو يلاحق طرائده. ماذا يفعل هؤلاء المسلحون أمام الصبية المتراكضين أمامهم أو الفتيات الصغيرات يزعقن بأصوات محببة لادراسة ولاتدريس. حتى يسقط الرئيس. رئيسهم. هم الكبار المسلحين بالهراوات والمسدسات والعضلات.

لم يرتبك قتلة حمزة أمام عينيه البريئتين، ولا ارتبكوا أمام الأجساد الصغيرة لعشرات الأطفال الذين سجيت أجسادهم الصغيرة في التوابيت بعد قنصها أو تعذيبها حتى الموت.

انتفاضة الأطفال في مدارسهم تشبه صرخة الولادة. ليس فقط أن أيا منهم قد يكون ابن أو أخت شهيد أو شهيدة، معتقل أو معتقلة، كثيرون منهم يتعلمون النطق للمرة الأولى، خارج كتب “التربية الوطنية”،  وكثيرون للمرة الأولى يتجاوزون رعباً مقيماً توارثوه عن آبائهم وأجدادهم. وكثيرون يتلفظون بالحرية للمرة الأولى وهم يحسون بعضاً من معانيها.

محمد في الصف الثالث، الأول على مدرسته. المديرة استدعت والدته في نهاية السنة الدراسية الماضية، طلبت منها أن “تجد حلاً” لولدها. كونه متفوقاً دراسياً، لا يعني أن ينظم مظاهرة لإسقاط النظام في باحة المدرسة! كان ذلك بعد أن نظم محمد مظاهرة هتف فيها “يادرعا حنا معاكي للموت”، وبإسم خاله المعتقل… ليلة اعتقال خاله كان في المنزل. بدأت والدته وجدته بالبكاء. قال لهم محمد لا تبكوا. أخذوه لأنه بطل.

النظام الذي فاق أي شرشبيل في هذا العالم بشره وبطشه، لن يفرق بين محمد وخاله في المعاملة، لو تسنى له الوصول إليه. لذلك، أصبح الذهاب إلى المدرسة سبب آخر للقلق والخوف لكل عائلة سورية.

تنسيقية داريا الورد، نوهت في بيان لها إلى أن الحراك المدرسي هذا “فاجأ” الجميع، باعتباره عفوياً بالمطلق ومن غير أي تنظيم أو توجيه مسبق من قبل التنسيقيات والنشطاء الميدانيين، لحرصهم على سلامة الأطفال وطفولتهم.

البيان أكد أنه يضع سلامة الأطفال فوق الاعتبار، مع تحميل المسؤولية كاملة للنظام عن سلامة التلاميذ والطلبة في المدارس.

آخرون لا يجدون بداً من دعوات صريحة لمنع التلاميذ والطلبة من التظاهر، يتصرفون كما يفترض بالكبار أن يفعلوا في بلاد تضع خطوطاً واضحة بين الطفولة والرشد.

أود لو أسأل الصغير محمد عن رأيه في القضية. أراني عاجزة أمام هؤلاء التلاميذ والطلبة، ما بين خيار حمايتهم، وبين أحزانهم المبكرة ويتمهم الظالم الذي حولهم إلى ثوار صغار وضحايا محتملين لنظام شرشبيلي متوحش.