حلم عائلة تفرق افرادها

نساء مع أطفالهم اثناء زيارة الأقارب .- تصوير معهد صحافة الحرب والسلام

نساء مع أطفالهم اثناء زيارة الأقارب .- تصوير معهد صحافة الحرب والسلام

"أمضى كبير اخوتي محمد، مدة شهرين في فرع الجوية بمنطقة حرستا في ريف دمشق. أما اخي أحمد فبقي خمسة أشهر. محمود أمضى مع ابن خالنا المماثل له في العمر 16 يوماً في المعتقل."

عليا الرفاعي

بدأت حكايَتُنا في 29 تموز/يوليو 2011، كان يوم جمعة. الشمسُ ساطعة والسماء تألقت بثوبها الأزرق. ومنذ ذلك اليوم وحتى الآن لم نجتمع في مكان واحد.

يومها استيقظنا جميعاً، وكعادتنا في صباحِ يوم الجمعة بدأنا باحتساءِ القهوةِ، ثم بإفطار خفيف قبل الاستعداد للصلاة.  كان ذاك الفطور هادئاً. لم ترتفع فيه أصواتنا ولا سُمعت من النوافذِ نقاشاتنا. كل ما أردناه ألّا  يُردِّدَ أبي وصيتهُ بعدمِ الخروجِ في المظاهرة!

كان أبي رجلٌ يقارب الستين من العمُرِ آنذاك. لم يكن خوفه خطيئته. جلُّ الآباءِ كانوا كذلك، فهم عانوا من نظام الأسدِ الأب (في إشارة إلى حافظ الأسد). هم من شهدوا أحداثَ ثمانينات القرن الماضي، وهم من عايشو الحرمان قبلنا، وهم من أُغلقت افواههم بالنار وصُعِقت عقولهم من هول المذابح الجماعية، ومن سكوت باقي دول العالم. وهم من عَلِموا ايضا انك اذا تكلمتَ ونجوتَ بفعلتِك يكون الحظَ آنذاك قد حالفك ونفيت إلى بلاد المهجر .

كانت بدايات الثورة، نارها قد أُوقِدت في حي برزة الدمشقي. كنا نخرج للتظاهرِ بعد صلاة الجماعة، ومع خروج المصلين تبدأُ الهتافاتُ وتصدح الحناجر قاصدةً حريتها لتنتشر في الأزقة الضيقة المحيطة بالمسجد الكبير الكائن في منتصف الحي.

انتهت التظاهرة يومها في الثانية بعيد الظهر، و دعواتنا في طريقها الى السماء سائلين الله أن يحمي من انتفض وان يدفع عنه شر اعوان النظام. عادَ الناس الى المنازل، وهدأ الحيُّ. اخوتي عادوا الى البيت هم بالقرب مني، إلّا أحمد، كان حينها بزيارةٍ لجدته التي تسكن على مقربة منّا.

كنت وأخي محمود الَّذِي لم يتجاوز الـ 17 من عمره في المطبخ. لاحظت خلف زجاج النافذة عددا من الشبان يتجمعون. ظننت انهم رفاقه، قلت له: “اخرج وبادرهم قبل ان يطرقوا الباب ويمنعك أباك من الخروج خوفا عليك”. كان أخي الصغير مصعب يراقب العائدين من التظاهر عبر النافذة.

قرابة الثالثة ظهراً طرق الباب بشدة سارعت أمّي لفتحه. فاجَأَها أحدهم بدفعة بالبندقية على كتفها، ودخل ومن معه إلى المنزل. كان والدي يصلّي. “علّها اخر صلاتك يا تقي” قالوها باستهزاء وسخرية. فما كان من ابي إلا أن أنهى صلاته بسرعة.

حاول اخي الكبير محمد الفرار من من الباب الخلفي، إلّا أن الجنود وصلوا اليه. واعتقلوه مع أبي ومحمود وأخوالي الذين كانوا بزيارتنا، وخرجوا بهم جميعا.

تعلقت بيد احدهم أتوسله أن اتركوهم بحق الله. أزعجني صمته المطبق. رمقني بنظرات لا إجابة فيها ثم ابتعد. كان يتميز عن اقرانه الجنود بشكل سلاحه وبلباسه المدني وشكله الغريب. عندما خرجوا بهم وجدنا أخي أحمد ينتظر، كان قد اعتُقِل قبلهم. عيونه مغلقة بخرقة سوداء ويداه مقيدتان للخلف.

عندما وصلوا الى عرباتهم صرخ صغيرنا وبكى وأبكى الواقفين. وما هي الا لحظات حتى عاد ابي وأخوالي. أبي الذي أمسك بيد اخي محمود، أصغر المعتقلين. شد على يده وفي قلبه يقول له ان اصبر يا بني وعد لي سالماً. والدمعة احترقت في عينيه لما أبعدوه عنه.

وأمضينا ذاك اليوم، امي وأختي تبكيان، أمّا أنا فلم أسمح لدموعي بالنزول. وكلّما كلمني أحد كان قولي: “الثورة تتطلب منا التضحية ونحن لها فداء، هم في امان الله”. وبعد مضي يومين على اعتقالهم، اجهشت بالبكاء شوقاً لهم، فلطالما كنت محط اهتمامهم ودلالهم.

أمضى كبير اخوتي محمد، مدة شهرين في فرع الجوية بمنطقة حرستا في ريف دمشق. أما اخي أحمد فبقي خمسة أشهر. محمود أمضى مع ابن خالنا المماثل له في العمر 16 يوماً في المعتقل.

خرج محمود أولاً وعاد لمدرسته مع بعض العراقيل، سببها اعتقاله. كان في الثانوية. محمود تعرض للاعتقال مرة أخرى قبل أن يرحل إلى لبنان. أحمد وبعد أن خرج من السجن، شدّ رحاله إلى مصر. محمد بعد ان أكمل الشهرين، عاد إلى زوجته وطفله وبقي حراً نحو 10 أشهر قبل أن يتعرض للاعتقال مجدداً. وإلى هذا اليوم لم نستطع الوصول إليه او الاطمئنان على حياته.

يبقى حلمي وأملي باللقاء حياً ما دمت انا على قيد الحياة.

عليا الرفاعي  (28 عاماً) تحمل إجازة من كلية الاقتصاد في جامعة دمشق. عملت في المكتب الإعلامي لتنسيقية حي برزة الدمشقي لفترة. غادرت سوريا بنهاية سنة 2015، مقيمة حاليا في بريطانيا.