كان موعد الإنشقاق غارة
إمراة مسنة تنتظر صاحب صهريج المياه لكي تتطلب منه صهريج ماء لبيت عائلتها- - تصوير معهد صحافة الحرب والسلام
"لم أخَف على نفسي بقدر ما كنتُ خائفة على مَن يسكن روحي وقلبي، إنه زوجي ووالد طفلَي وشريك حياتي."
هجرَني النوم بينما كنتُ أغفو بجانبه، كطفلةٍ تلوذُ بخاصرة أمها بحثاً عن الأمان… فأُمسكُ بيده دون أن أفتح عينَي ثم أعودُ ليأخذُني النوم ثانيةً… وما إن أغفو قليلاً حتى أسمع أصوات القذائف تهبطُ في الأحياء المجاورة وعلى أطراف الحي الذي نقطنُ فيه، ممّا يُثيرُ خوفي وقلقي أكثر.
إنها الواحدة بعد منتصف ليل 26 أيار/مايو 2012، في شارع علي الوحش في منطقة حجيرة في دمشق العاصمة.
لم أخَف على نفسي بقدر ما كنتُ خائفة على مَن يسكن روحي وقلبي، إنه زوجي ووالد طفلَي وشريك حياتي.
في تلك الليلة لم يكن يعلم زوجي بما يدور في داخلي حولَ قرارٍ طالما فكّرنا به، لكن لم نحسمهُ بعد.
استيقظ زوجي على صوت المؤذّن يُنادي لصلاة الفجر… نهضَ من فراشه وتوضأ ثمَّ شرعَ للصلاة، فلحقتُ به. طلبتُ منه أن نشرب القهوة معاً قبل ذهابه إلى وظيفته، كونه يخرجُ من البيت في وقتٍ مبكّر. وهذا ما كان…
أثناء شرب القهوة أمسكتُ بيده وهمستُ له: “أما آن الأوان كي تحسم أمر انشقاقك عن هذا النظام الظالم؟ إنظرْ إلى القذائف كيفَ تستمر بالسقوط والمداهمات، والاعتقالات لا تنتهي…”
أطرقَ يفكّر وقبل أن يجيب بأيِّ كلمة، قلتُ له: “أعرفُ أنكَ في عملك مع النظام لا تؤذي أحداً، وأنكَ تساعد الناس… وأنَّ الطريق إلى إدلب صعب جداً، خصوصاً وأنَّ النظام يحتجز بطاقاتكم الشخصية… أعلمُ أنَّ الحياة ستكون صعبة إن عدنا إلى إدلب، لكن علينا أن نغادر دمشق قبل أن تتصاعد الأمور وتزدادُ سوءاً، وإن كنتَ لا تؤذي أحداً اليوم فستضطر لفعل ذلك بعدَ حين”.
بعد صمتٍ طويلٍ قال لي: “كيف سأقطع الحواجز ولا أملك بطاقة شخصية وليس بإمكاني الحصول على إجازة من عملي؟ كيف سأتمكّن من مغادرة فرع الشرطة العسكرية الذي أعمل فيه وهم يراقبونني بعد انشقاق أخي؟!”
إذاً هي رحلة حياة أو موت… ارتشفَ ما تبقّى من فنجان القهوة دفعةً واحدة، وقالَ لي: “سأُخبركِ في الوقت المناسب ماذا سأفعل، وسأفكّر بطريقة للهروب من أولئك المجرمين”.
حبسَ في صدره غصّةً كبيرة، واقتربَ من طفليه النائمَين وقبّلهما قبل أن يغادر… ولم تستطع عيناه البريئتان مغادرتنا إلى الآن… كان يخاف علينا جداً ومتعلّق بعائلته كثيراً، ذلك لأنهُ كان قد فقدَ والدته في سنٍ مبكِّر، فكانت العائلة بالنسبة لهُ شيئاً عظيماً.
في المساء، ذهبتُ إلى الحي المجاور لزيارة أقرباء زوجي. أبو علي وعائلته قصدتهم علّني ألتمسُ منهم القبول بفكرة انشقاقه وتشجيعه على ذلك… لكن للأسف لم تُجدِ الزيارة نفعاً، فكلٌّ منهم أعطاني مبرِّراً مختلفاً لبقائه في وظيفته كون غالبيتهم في الشرطة المدنية.
شعرتُ بإحباطٍ شديدٍ في ذلك الوقت، لأنّ زوجي إن عرفَ بإصرار أقاربه بالبقاء في النظام، سيتردَّد باتخاذ قراره! وبينما كنت أتناول أطراف الحديث معهم، إذ بصوتِ طائرةٍ تُحلّقُ في سماء الحي. لم نكن نعتقد للحظة أنها ستُلقي ببراميلها المتفجّرة في المكان!
علا صوت الانفجار وصوت الصراخ معه. هرعَ البعض إلى الشارع ليعرف ما الذي حصل، وبقيت النساء والأطفال في البيوت، حيث لا يسمع سوى بكائهم وتوسلاتهم.
عاد بعض الأشخاص ليخبرنا، بأنَّ غارة استهدفت مجموعة من الثوّار وقتلت الكثير منهم، بالإضافة لمقتل وإصابة بعض المدنيين.
عفوكَ يا رب… ما تزال الطائرة فوق رؤوسنا ولا ندري ماذا نفعل، سوى نضم أطفالنا إلينا…
الخوفُ يُحاصرنا… نفّذتْ الطائرة غارةً أُخرى وعلا الصراخ والتكبيرات عمّت أرجاء الحي…
شيَّعَ الحي شهداءه إلى المسجد، ويا لهول ذلك المشهد، إنها المرة الأولى التي أعيشُ فيها أحداث القصف!
نظرتُ إلى من حولي من أقارب زوجي، وصرتُ أنظر إليهم نظرةَ لومٍ… قبلَ قليل كانوا يسوقون التبريرات، وينصحون بعدم انشقاق زوجي عن النظام! لكن منذُ تلك اللحظة، اتخذَ بعضهم قرار الانشقاق فعلاً… وانشقَّ زوجي أيضاً…
أم زيد (30 عاماً) من ريف إدلب، مدرِّسة لغة عربية. كانت تقيم في دمشق مع زوجها قبل انشقاقه عن النظام وعودتها إلى بلدتها. لديها عدّة أعمال تطوعية أهمها التعليم.