كانت تزرع الأرض خيراً وأبناءً
تذهب صباح كل خميس الى المقبرة حاملة معها باقة من الزهور والنباتات الخضراء. تذهب بوجهها الكئيب وثيابها السوداء لتزور قبور أولادها. خالدية دياب (55عاماً) لم تكن أمّاً ثكلى لولد أو ولدين، وإنما لاربعة شبان خطفتهم الحرب الدائرة في سوريا تاركة لها “حسرة وحرقة قلب لا تنتهي”.
خالدية دياب أو أم خيرو، من قرية بسقلا في ريف إدلب الجنوبي. سيدة سمراء، متوسطة القامة. هي أمّ لستة أبناء وثلاث بنات. أبناؤها هم: خيرو (32عاماً)، حسن (27عاماً)، صفوان (29عاماً)، محمد (18عاماً)، سامر (24عاماً)، أحمد (13عاماً). والبنات هن: عصرية (35عاماً)، صفاء (38عاماً)، سمر (20عاماً). زوجها ضابط متقاعد يدعى زيدان الموسى (65عاماً).
“كنا نعيش في درعا في منطقة حوران، كنت أزرع الأرض في تلك القرية، حيث أمضينا أكثرمن ثلاثين سنة بحكم وظيفة
زوجي. أنجبت في درعا جميع أولادي”. تضيف خالدية م “صحيح أن زوجي كان موظفا عند النظام، وأحد ضباطه، إلّا أنه كان يكره ممارسات هذا النظام الذي يسمح لأصغر عنصر في الامن أن يهين كرامة أي مواطن دون استثناء، كان حكماً استبدادياً بكل ما تعنيه الكلمة”. وورث أبناء خالدية عنها كراهية هذا النظام.
تقول خالدية أن معظم أولادها تطوعوا بالجيش رغم كراهيتهم للنظام، ساعين من ذلك وراء مصدر رزق لهم ولعوائلهم. إلى أن نشبت هذه الثورة، وكشّر هذا النظام عن أنيابه، وصبّ جام غضبه على الأبرياء، و”هذا بالذات، ما دفع أولادي للعمل الثوري، ولكن ليس بالانشقاق، وإنما بمساعدة الثوار وهم ضمن وظائفهم، من خلال تقديم معلومات لهم، ومعرفة أماكن بعض السجناء الثوريين ممّن تم إخفائهم. تطور عملهم في ما بعد، وبدؤوا بتلغيم سيارات الضباط. دفعهم لذلك ما كانوا يشاهدونه من تعذيب
الأسرى، الذي لا يمكن وصفه من هول ما كانوا يرونه. إضافة الى اغتصاب النساء الحرائر داخل السجون، وما الى ذلك من الاساليب الوحشية”.
ولكن الثمن كان باهظاً، تم اكتشاف أمر خيرو، فتم سجنه. تعرّض لأقسى أنواع التعذيب، ما أدّى إلى وفاته. هو أب
لبنتين وولد، هم سالي، سلسبيل ومحمد. م فعله خيرو كانت نتيجته تسلّط الأمن على إخوته الذين يعملون في الامن. تم اعتقالهم وهم سامر، محمد، حسن وصفوان. تم تعذيبهم والتحقيق معهم. لم تتم إثبات التهمة عليهم. أطلقوا سراحهم ليعودوا لاعتقالهم بعد فترة، حيث تعرضوا للسجن عدة مرات في فرع 48 في دمشق. وهذا مادفع سامر ومحمد وصفوان للانشقاق عن الجيش النظامي والانضمام إلى الجيش الحر.
تقول خالدية “بدأ جهادهم العلني ضد النظام، حيث قاموا بعدة عمليات تلغيم لحواجز الامن والجيش عن بعد. وفي النهاية فقدت ولدي سامروأخيه صفوان. استشهدا في معركة بصرى الحرير قبل سنتين وثلاثة أشهر”. وتضيف “محمد استشهد بعد سبع عمليات تفجير، ضد النظام وأنصاره الايرانيين في منطقة حارم في إدلب. أما بالنسبة لحسن فهو لا يزال معتقلاً في سجون النظام ولانعرف شيئا عنه. أحمد هو من بقي لي من أولادي”. تصمت خالدية قليلا ثم تقول “الحمد لله على كل حال”.
زيدان الموسى زوج خالدية ووالد الشهداء يقول “خسرت انا وزوجتي أكثر ما قد يفقده غيرنا في هذه الحرب، لقد فقدنا أولادنا. فلذة أكبادنا. هذا ما جعلني أشعر بالعجز واليأس، ولكن زوجتي خالدية هي من تمدني بالأمل وتواسيني، رغم أنها هي
بحاجة لمن يواسيها”.
عصرية احدى بنات خالدية تقول “أعان الله والديّ وأمد في عمرهما، انهما دائما يتألمان لفقدهما إخوتي، ولكن يحاولان ألا يعرف أحد بحزنهما، يتظاهران بنسيان الأمر. كلما حاولت مواساة أمي تقول لي :ان الحياة ستستمر ويجب ألّا نقف طويلا عند مصائبنا وفقداننا ما نحب”.
عصرية هي الأخرى لم تتركها الحرب بسلام. تعرّض زوجها سالم (40عاما) لقصف إحدى طائرات النظام. أصبح نتيجة لذلك معوّقاً. هي وبناتها يعملن في ورشات لكبس التين، للإنفاق على المنزل. لاسيما وقد أصبحن هن المعيلات. “هذه الحرب لم تترك أحداً وشأنه” تقول عصرية..
أم أحمد (60عاماً) إحدى قريبات خالدية تقول “الحقيقة أنني لمت خالدية لتشجيعها أولادها على العمل الثوري، ذلك أن هذا الامر أدى لفقدانها لهم. ولكنها كانت تقول لي: أتكفلين أن هذا النظام لن يرمي برميلا من إحى طائراته على بيتك أو أي بيت
في القرية ويؤدي إلى وفاة جميع من فيه؟ ألم يفعل ذلك في معظم المناطق السورية؟ ألم يقتل الأبرياء في بيوتهم وفي السجون؟ أنا لست آسفة على أولادي، المهم أنهم لم يذهبوا رخيصين وانما شهداء باذن الله”. أم احمد تصف قريبتها خالدية بأنها امرأة شجاعة وصبورة وحكيمة .
“لن تموت البطولة بموت أولادي، فسوريا كانت وما زالت تنجب الأبطال في كل لحظة. هؤلاء الذين سيكملون الطريق ويحررون البلد من الاستبداد والطغاة إن شاء الله”. بهذه الكلمات أنهت خالدية حديثها.