قصة معتقلة “في بدايات الثورة”

كان يوم 25 آذار/مارس نهاراً مشمساً حام حوله صقيع طري إنهار على وجهي وأطراف شعري، وأنا بين الحشد أهتف وعلى رموشي الكثير من الدمع الأحمر، والذي تساقط على الرجل الذي استمر في ملاحقتي منذ بداية المظاهرة صارخاً “نزلي الموبايل من ايدك”. بعد أقل من ثانية تلاشى هذا الصراخ بين الأصوات المنادية بالحرية. فأكملت السير والأصوات تعلو. غرقت في سيل الموج الذي إعتلاني، جزء من بحر يثور في أماكن مختلفة من المدينة، فلا عرش تعتليه الآلهة في هذه اللحظة، الأرض الآن وكل ما عليها ملك للإنسان فقط دون سواه.

كان صوتي يعلو أكثر وأكثر وأصوات كثيرة أيضاً، طالت السماء في ذاك اليوم، بداية الثورة الصيحات الأولى، نحن والمجهول. من منا كان يظن حينها أن الأمر سيصل إلى المرحلة التي نحن فيها الآن. بعد إختراقنا شوارع المدينة الضيقة، التي وقفت على جانبيها وجوه مندهشة مبتسمة وخائفة أيضاً، ودون أن ألتفت، سمعت صوتاً غاص في أذني للحظات لكنه بقي يدق طبولهما طوال وجودي هناك “سورية ولدت الآن بعد 60 عاماً، ولدتُ أنا اليوم”. وخلال لحظات أصبحت مكبلة اليدين معصوبة العينين، والصقيع يحيط بجسدي المتعب، وأمر مستمر بالوقوف كلما اقتربت من السقوط.

أمسكتني يدان خشنتان، جرّتاني باتجاه الحائط المدبدب، أحسست ببرودة الحديد وهو يلف معصمي النحيلتين “خليكي واقفة هون وما تتحركي!” شعرت بالقيد ينزلق من بين أصابعي، أمسكته بإبهامي في محاولة لعدم التحرك، والبرد يرصف قدمي يلثمهما بشدة. وكأني وُضعت في تابوت في منتصف البحيرة، لا أرى شيئاً وكل ما حولي مجهول تماماً، وأنا الفتاة الوحيدة هناك، وفي صراعي مع نفسي للتأقلم مع عدم الرؤية، سمعت صراخ أحدهم “انزل على ركبك لشوف واهتف بالروح بالدم نفديك يا بشار”، في اللحظة ذاتها أُلصق رأسي بالحائط وصوت من يمسك بي “دخلوها لجوا”.

بعد مضي ساعات في السواد القارص، تم رمي داخل زنزانة صغيرة ليغمى علي كلياً. ارتطمت جمجمتي بالأرض. فور استيقاظي، نظرت حولي، المكان صغير وقذر، وأنا متقوقعة في إحدى الزوايا أحدق في النافذة العالية التي تطل كما ظننت حينها على الجزء الثاني من السجن. صرخات المعتقلين تتدفق من كل مكان حتى ملأت زنزانتي، وصوت السجان ينادي بالمزيد من العصي.

فُتحت الزنزانة وتم جرّي مغمضة العينين مكبلة اليدين إلى غرفة التحقيق، وهناك حمّلوني غربة كنت أتجاهلها ضمنياً “هاي مو بلدك، بتحبي نرجع نزتك على الحدود، هاد اسمو العهد الأسدي ورح يبقى وما راح تقدروا تعملو شي”. كان طريق العودة إلى الزوايا الأربع طويلاً وبارداً وأكثر سواداً. ضاعت مني الخطوات بين أجساد ألقوها مكبلة في الممر الطويل وبين الأنفاس المتقطعة لمن هم في الداخل بعد عودتهم من جلسات التعذيب. وصلنا إلى الباب الحديدي الصدأ، حاولت أن أمسح آثار القيد لأسند بجسدي الحائط المغطى بخطوط، رسائل من سجناء سابقين حفروها على الجدران التي تحولت إلى وثائق تشهد على ما حدث في هذا المكان.

فُتح باب الزنزانة “أنت وقف وخود الأكل” نظرت حولي، تجاهلت الصوت، “عم الك وقف وتعا خود أكلك”. مددت يدي لأسحب الصحن البلاستيكي المعضعض الأطراف، ركنته جانباً. عينان تنظران من خلف النافذة “راح تاكل هالمرة ما، لا تخليني جيب المحقق، واسمع انت هون شب مو بنت ما بدي حدا ينتبه انو في بنت هون هيك الأوامر”، أومأت دون أن أنبت بأي حرف.

مجدداً تم اقتيادي إلى غرفة أخرى. قدمان تدوران حولي وأنا جالسة على كرسي معصومة العينين وصوت قريب جداً من أذني “مين جماعتك؟”. رفعت رأسي وحاولت أن ألاحق مصدر الصوت “شو يعني مين جماعتي؟” ارتفعت حدة الصوت “مين الي نزلك عالمظاهرة وأعطاك مصاري، ولمين كنت عم تصوري؟” ودون أن أفكر أجبته “لما بلش القتل نزلنا والتظاهر السلمي مسموح حسب ماقالت بثي…” وضع يده على رأسي “عم تقولي انو نحن عم نقتل ولاد البلد؟” شعرت بأصابعه تضغط على جمجمتي. بدأ التوتر يشل أطرافي إلى أن رفع يده ورأيت حذاءه الأسود الأنيق يلامس قدمي التي ركنتهما على طرفي الكرسي “بتعرفي اديش خسرنا نحن السوريين مشانكن مشان القضية الفلسطينية يا بنت فلسطين؟ وأنت نازلة تخربي بالبلد مع المخربين؟ هي مكافأتنا هاد رد الجميل؟” لم أنطق بأي كلمة ولم أدر لماذا بت أحبس أنفاسي كي لا يسمعها، لربما لا يراني مثلما لا أراه، وهو عاد يضغط على رأسي أكثر وأكثر.

بين حلقات الإستجواب وتفاصيل غابت في غوغاء المكان، مرت أيام إعتقالي القليلة. تم إطلاق سراحي في اليوم الثالث من شهر نيسان/أبريل بعد الإستجواب الأخير والذي كان في حقيقته تهديداً بحياتي وحياة كل من حولي. وبعد أن خرجت من هناك، وضعت يدي على الأرض وعهدت أن أبقى في بحر الثورة مهما كانت نتيجة ذلك. فالأمر بالنسبة لي هو ميزان الحياة والموت “الموضوع صار شخصي كتير”.