في مخيم اليرموك تغريبة ثانية ولكنني حسمت قراري
17 كانون أول/ ديسمبر 2012، الساعة الثالثة والنصف عصر، كنت في مكتبي في مخيم اليرموك أتابع أمور المهجرين. كان المكتب الذي أعمل فيه قد تكفل بجزء كبير من تكاليف هؤلاء المهجرين على صعيد المأكل والمشرب والمنامة. كنت غارقة في العمل وأبو محمد يشكو من جاره في المسكن، زاعماً انه يتلصص على زوجته متوعدا إياه في غيابه “يا اختي انقليني لغير غرفة والله بعمل فيه مدبحة”.
قاطعه صوت بدا متتاليا للوهلة الأولى، اعتقدنا انه صوت القذيفة والتي كنا قد اعتدنا على سماعها وألفناها … صمت أبو محمد لبرهة ومن ثم أكمل حديثه “الله يستر … المهم بدي تلاقي لي حل”
أجبته “عمي هدّي شوي رح نلاقي حل”… هذه المرة كانت الضربة الثانية كفيلة بإسكاتنا معاً.
نظرت خارج نافذة مكتبي، رأيت دخانا يتصاعد والناس تركض في الشارع وتصرخ: ميغ ميغ ميغ … (طراز الطائرات الحربية الروسية)
خرج الجميع من المكتب ما عداي، رفضت الخروج حتى أتمم عملي. كنت أشعر بالجوع، تناولت من حقيبتي سندويشة اللبنة التي صنعتها لي أمي … كان شعور اللا شعور قد بدأ في الظهور حينها. ذلك الشعور الذي لا تشعر فيه بشيء، تجد نفسك تردد دائما “عادي”. عندما شعرت بالهدوء حزمت أغراضي وذهبت…
وصلت إلى شارع المدارس حيث يقطن المهجرون في مراكز الإيواء. كان زجاج المحلات المحطم والمتناثر قد ملأ الشارع. وجوه اناس تطلخت بالدماء وهي تركض. الطائرة قصفت مراكز الإيواء في مدرسة الفالوجة ومسجد عبد القادر … في هذه اللحظة ليس عليك أن تسأل عن عدد الإصابات، بل عليك أن تركض إلى مكان الدمار وتشاهد بنفسك. كنت أقف إلى جانب المدرسة لم استطع الدخول الى هناك. ركضت مسرعة إلى مسجد عبد القادر… المئذنة سقطت والدمار هائل، لم اشعر بثقلي في تلك اللحظات، اقتربت من المسعفين لأرى، فإذا بأحدهم قد أحضر كيسا لجمع الأشلاء !! تلك الطائرة اللعينة تمزق الأجساد وتفصل الحواس عن مكانها… لم استطع تقديم المساعدة ولا حتى برفع حذاء طفل صغير كان تحت الركام…
ركضت إلى المنزل لأطمئن على أهلي … “أمي أخواتي جدتي هل الجميع بخير؟”
أمّي “نعم نحن بخير اين كنتِ؟ ذهبنا إلى المسجد لنبحث عنك خفنا ان تكوني هناك…
“هل توفي احد نعرفه هناك ؟”
امّي : أجل لقد توفيت هبة، كان أمامها اسبوعا لكي تضع مولودها …”
هبة متزوجة منذ 9 سنوات لم يشأ القدر أن تنجب، وعندما شاء القدر أن تضع مولودها توفيت معه …
كانت أمي ترتجف وانا وإخوتي الصغار أيضاً… جمعنا بعضنا في غرفة صغيرة مع اشتداد القصف. لم يتوقف هاتفنا عن الرنين يومها من كثرة الاتصالات، بيت جدي الأقارب والأصدقاء وكان الجميع متفقون على جملة واحدة: اخرجوا من المخيم حالا النظام سيدخل إليكم ويحدث مجزرة أخرى…
كان القصف يشتد اكثر …عندما خيم الظلام جلسنا نتباحث في امر خروجنا من المخيم…
“أمّي علينا ان نخرج غدا”
أمّي : الى اين؟ …
“سنذهب إلى منزل جدي وان استقرت الامور سنرجع”.
أمي : لكن منزل جدك صغير …
“أمّي ارجوكِ علينا أن نخرج …”
صرخت جدتي: لن أخرج من هنا إلا على جثتي أو أعود إلى فلسطين … كانت جدتي قد خرجت من فلسطين بناء عل طلب جدي عندما دخل الاسرائيليون إلى منزلهم، فأخبرها جدي: يا بنت الحلال سنذهب الى الشام نتنشق هواء نظيفا وسوف اخذك الى السينما الا تودين الذهاب الى السينما ! اغراها جدي بالذهاب الى الشام لتشاهد السينما. ثم تمتم جدي قائلا لها: أسبوع وسنرجع الى فلسطين. الأسبوع تحول إلى 64 سنة. أنجبت جدتي أطفالا في الشام، وبنى جدي بيتا وتوفي، ولم يرجع إلى فلسطين. يا الهي جدي أقنعها بالسينما بماذا سأقنع جدتي!
كانت جدتي تعتبر مخيم اليرموك هو فلسطين الصغيرة يقال لمخيمنا عاصمة الشتات فهو اكبر المخيمات الفلسطينة في العالم ويعتبر أكبر تجمع للتعليم يحوي 15 مدرسة و60 مركزا تعليمياً واسواقاً ضخمة، فهو لم يكن مخيما عادياً…. أقفلنا الحديث وحاولنا الذهاب للنوم .. طبعا لم نستطع … دقت الساعة 6 صباحا استيقظنا على أصوات حقائب تجر في الشارع وأصوات أطفال ونساء ورجال …
تغريبية فلسطينية ثانية هذا ما رأيت، كانت الشوارع تغص بالبشر الراكضين إلى الزاهرة وهي المنطقة التي تاتي بعد المخيم … رأيت يوم القيامة !!! كان الهلع والخوف واضحاً في عيون الناس، لم يكن باستطاعتك ان تكلم احدا..ركضت الى المنزل لأخبر امي ان تحزم الحقائب من اجل الخروج، وانا ذهبت الى الشارع من اجل البحث عن سيارة …
تلقيت اتصالأ من صديقتي في المكتب ..”اين انتِ ؟”
انا لا زلت في المخيم … أبحث عن سيارة أجرة..
صديقتي : اخرجوا سيراً على الأقدام نحن فعلنا ذلك وكل من معنا في المكتب خرج حتى المدير…
انا: كيف اخرج والمكتب مليء بالسلل الغذائية للناس وبعض المؤون علينا أن نجد حلا …. يا الهي كيف خرج المدير وترك الامور هكذا
كيف أخرج واترك المكتب هكذا، نحن نعمل في الاغاثة علينا ان نبقى اخر الناس !! خلال تجوالي في الشارع الخالي تماما من البشر رأيت امرأة من بعيد تناديني … في قرارة نفسي ارتحت كثيرا … انا لست وحدي هنا الحمد لله …
التقطت تلك المرآة انفاسها وقالت بلهجة مرتجفة : الحمد لله وجدتك كنت ابحث عنك ..
انا : عني انا لماذا؟
المرآة : ارجوكِ ابني الصغير ذو السنتين يحتاج إلى زجاجة حليب…
انا متلهفة : هيا بنا إلى المكتب فلدينا زجاجات حليب ساعطيكِ …
ذهبنا الى المكتب، المفاتيح كانت معي أعطيتها 3 زجاجات حليب …
قبل وصولي الى المنزل بقليل صوت
اخر ينادي باسمي .. هذه المرة رجل وزوجته … كنت اعرفهما ..سالتهما : لماذا ما تزالون في المخيم …
اجابني : اين سنخرج لا يوجد لدينا احد خارج المخيم هنا افضل، لكن ماذا عنكِ انتِ لماذا لا تزالين هنا؟
لم أستطع الاجابة ربما لم أكن أعرفها ولكنني سألت: المهم الآن هل تحتاجان الى شيء …
نظرا الي باستحياء وقال الزوج: نعم كنا نود ان نسألك عن حفاضات الاطفال !
انا: طبعا يوجد لكن هل تريدونها الآن! تأخر الوقت وعلي الذهاب الى المنزل امي تنتظرني …
سكت الرجل وزوجته برهة… قاطعت سكوتهما وقلت: حسنا ساحضرها الآن فالمفاتيح معي ولا يوجد ما أخسره …
عاودا الابتسام وكأن سفينة قد انقذتهما من الغرق .. ذهبنا الى المكتب واعطيتهما ما طلبا … وذهبت مسرعة الى المنزل، ذهبت حاسمة قراري بعدم الخروج من المخيم أبدا…