في سماء مدينة لا تطير فيها الأحلام بل الأعناق

لم يكون يوما عاديا، وعلى غير عادتي استيقظت باكراً صبيحة 16 أيلول/سبتمبر 2013. كان ينتظرني واجب اجتماعي.

صديقي خسر أخيه الذي قضى بقذيفة هاون ليلة أمس، فوجدت من الواجب أن اقوم بالطهي لهم، لأن أهل الميت ينشغلون بحزنهم وحجم خسارتهم. أن تطهو لأحدهم في ظل الحصار أمر شاق، فصعوبة إيجاد الأرزّ و غلاء ثمنه تضطرك أن تصبح شخصا بخيلاً وأنانياً ربما. لكن هذا صديقي في الحصار، وقد وقع في بيت أهله فاجعة، يجب أن أقف بجانبه في هذه المحنة. كنت قد بحثت مطولا لأشتري أربعة كيلوغرامات من الأرز وقليلاً من البهارات، عوضاً عن اللحمة التي أصبحت من رفاهيات العصر ومعجزات الحصار.

استيقظت في تمام الساعة السادسة صباحاً. استفاقت أختي الكبرى على أصوات قدميّ، وقرقعة الطناجر في المطبخ.

جاءتني تسأل: ما الذي أيقظك باكراً ؟

أجبتها: أريد أن أطبخ الآن.

هي: لكن الوقت ما زال باكراً.

أنا: لا ادري لم استطع النوم.

هي: إذهبي للنوم وسأوقظك عند العاشرة.

حلب في حي السكري أم تبحث عن طفلتها المفودة في إحدى المجازر بين الجثث أما أحد المشافي الميدانية. تصوير: صلاح الأشقر

قاطعها قرع على باب المنزل. نظرنا نحن الاثنتين بعيون بعضنا وسكتنا لبرهة.

هي: من الذي أتانا في الصباح الباكر؟

أنا : لا أدري. (بعد هذه الحادثة تصيبني فوبيا من قرع باب المنزل فقد اصبح مرتبطا بحادثة سيئة لدي)

ركضت أختي مسرعة نحو الباب. أمّا أنا فتسمرّت في مكاني.

كان ابن عمي الصغير محمد على الباب، قال: صباح الخير.

هي: صباح النور.

أنا : محمد ماذا هناك ؟

محمد: لا تخافوا لا شيء، لكن اخوكم أحمد أصيب في الجبهة وهو الآن في المشفى.

بدأت أختي بالصراخ والأسئلة: كيف ومتى وكيف هو الآن؟

أما انا بطبيعتي الهادئة بقيت واقفة في مكاني، ولم انبس ببنت شفه.

كان أخي أحمد قد انشق عن الجيش والتحق بصفوف الجيش الحر. كان يلزمه ثلاثة أشهر فقط لينتهي من خدمته العسكرية، لكنه لم يطق البقاء معهم فهرب من هناك.

تمكّن من دخول المخيم اليرموك قبل الحصار في  كانون أول/ديسمبر 2012.

عندما دخل البيت أول مرة بعد الانشقاق، كنا نعرف في المنزل أنه سيلتحق بالجيش الحر. باءت بالفشل جميع محاولاتنا تغيير رأيه. كنا نود أن ينهي عسكريته ومن ثم نهرّبه خارج البلاد ربما.

كان أخي أحمد يردد باستمرار: لا أستطيع البقاء في جيش الأسد. إنه يقتل ويعذّب، إنه ظالم.

وبعفويته المعتادة ودراسته الإعدادية فقط، أيقن أن الظلم واقع وبأن الحق واضح كالشمس. الحقيقة لا تحتاج إلى شهادات أو دراسات.

هو حديث وحيد، دار بيني وبينه عن قراره. سألته: أحمد هل تعرف من تقاتل ولماذا تقاتل؟

أجابني بكل ثقة: نعم.

اكتفيت أنا برسم ابتسامة صغيرة وقلت: الله يحميك.

حدثني أصدقاؤه في الجبهة عن خفة حركته أمام القناص، وعن شجاعته أثناء المعارك، وعن عصبيته عندما يموت أحد منهم أو يخسرون في إحدى المعارك. كان يرمي سلاحه جانبا ويقول: تباً له، إنه الأسد ولكن سوف يهزم والله سوف يهزم. كنا على يقين في المنزل بأن أحمد لن يكمل شبابه.

أختي الكبرى تصرخ وتقول: أحمد أصيب.

أما انا فلم أصدّق خبر إصابته وقلت في نفسي: أحمد استشهد أحمد ما بيتصاوب.

لا ادري ما السكينة التي نزلت على قلبي في تلك اللحظات. دخلت غرفتي ولبست ثيابي الرسمية لاستقبال المعزين. ما هي إلا لحظات حتى امتلأ البيت بالجيران والأصدقاء. أختي الكبيرة تمسّكت بالأمل وبأن أحمد على قيد الحياة. كنت أجلس في منتصف صالون منزلنا يحدثني الناس، ويحاولون تخفيف الألم عني، وأنا أستذكر لحظات كانت بيني وبين أخي الذي يصغرني سناً، لحظات كانت أجمل ما يحصل للإنسان. كان الأخ الذي يملك ابتسامة كبيرة، وخفة في الكلام والحركة وشقاوة وحياة ملؤها الحب. خسرته وخسرت كل الحب والحنان. سرقته الحرب، سرقه المخيم.

جاؤوا إلينا بأحمد ملفوفاً بغطاء أبيض. اقتربت منه وددت تقبيله من جبينه، حاولت أن أكون متماسكة للحظة الأخيرة. حاولت أن آخذ دور الأخت الكبيرة، التي ضج البيت ببكائها. بقيت صامتة وهادئة إلى أن حملوه خارجاً، ركضت وراءه وأخي الكبير يحاول إمساكي. صرخت بصوت يملأه الحزن والحرقة وناديت: أحمد. ولكن ما من مجيب. ذهب أحمد وهو في 23 من عمره، وذهب كل شي جميل معه. حاولت أن ألملم ما تبقى من جراحي، وألتزم الكرسي وأبكي بهدوء.

أمي كانت بعيدة عن كل هذا الحدث. كانت قد انتقلت للإقامة في الشام، وحين حوصرنا في المخيم لم تعد تستطيع الدخول. كان من أصعب الأمور علي أن أرفع سماعة الهاتف وأخبرها . هي التي تكنّ محبّة كبيرة لأخي الصغير وتهتم فيه وبكل تفاصيله. تولّت أختي الكبرى هذه المهمة، وحتّى يومنا هذا، لم أستطع أن اسأل أختي الكبرى عن ردة فعل أمي. أحاول أن أتناسى أو أتحاشى السؤال.

بالعودة إلى الطعام الذي كنت سأطبخه لأهل صديقي، طبخته لنا ووزعته على روح أحمد.غريبة هي الأقدار.

استشهد أحمد وبقيت ذكراه في المخيم. كان يلزمه سماء غير سمائه وأرضا غير أرضه، ففي سماء مدينته تطير الأعناق لا الأحلام.

يافا في التاسعة والعشرين من عمرها، مُحاصرة في مخيم اليرموك في ريف دمشق منذ أكثر من عامين. تعمل لصالح إحدى المنظمات الإغاثية الفلسطينية. استشهد أخاها الأصغر وهو يقاتل قوات النظام. تحب القطط وتحلم بقطعة من الشوكولا لم تذقها منذ سنوات. يافا ترسم على الجدران، وتقوم بتدريس الأطفال وتساعد في الدعم النفسي للنساء والأطفال.