في ساحة الحرب صباحاً
تلك اللحظات في 28 حزيران/ يونيو 2012، مازالت محفورة في ذاكرتي … تروادني كلما كثرت الضغوط من حولي و كلما شممت رائحة الدم.
كانت قوات النظام في دمشق قد صعّدت حملتها ضد مدينة دوما، حيث تعمل وحدات الجيش الحر من دون تنسيق وبشكل ضعيف على حماية المدينة.
تولّت كل مجموعة منطقة في المدينة لتحميها و تحمي أهلها من تقدم قوات النظام. أما أنا و أصدقائي، فكانت مهمتنا إسعاف الجرحى، و إيصال المساعدات الغذائية إلى المحتاجين. إضافة إلى توثيق جرائم النظام، ورفع الصور إلى مواقع التواصل الاجتماعي فاضحين وحشيته…
صباح يوم الخميس اشتد قصف قوات النظام على المدينة. استخدموا الدبابات وقذائف الهاون، فيما كانت مجموعات الجيش الحر في مكانها تتابع حماية تخوم المدينة. استيقظت متأخرة في ذلك الصباح على غير عادتي. كنت أنهيت امتحاناتي في الجامعة قبل يومين. أنا على أبواب التخرج، أخبرتني صديقتي على الهاتف بضرورة قدومي إلى المشفى الذي استنفر كل طاقمه. خرجت مع زميلتي في السكن،
كنت قد استأجرت مع أصدقائي في الثورة منزلاً، لأنني اضطررت إلى مغادرة منزل أهلي بسبب المداهمات التي كانت تحدث بكثافة في حيّنا ….. هناك في المشفى كانت الإصابات قد بدأت تتوافد و الإمكانيات التي نملكها ليست كبيرة. وسبق للمشفى أن تعرّض ليلاً إلى قذيفة هاون أصابت الطابق الرابع، و تم نقل المعدات إلى الطوابق السفلية وإخلاء الطابق من الجرحى …
المهام كثيرة والتوتر يزداد … بدأت حركة النزوح من المدينة بشكل سريع مع ازدياد حملة القصف … الصراخ يعلو في كل مكان …
تذكرت أنني لم أحادث أمي في الصباح لأطمئن عليها. ذهبت مسرعة إلى غرفة الانتظار حيث الهاتف وبدأت أتصل بأمي و لكن لا مجيب …. اتصلت بجميع أقاربي و أيضا لم أصل إلى أية أخبار من شأنها أن تخفف من قلقي …. حاولت ضبط أعصابي و تابعت عملي … بعد ساعتين جاء المسعفون يحملون ثلاثة شهداء. ركضت إلى البهو لألقي نظرة و إذ بأبو فارس الشخص، الذي التقيته في الصباح و تحدثت معه وأوصلني بسيارته إلى المشفى، جثة هامدة تحول قسم منها إلى أشلاء. كتمت دموعي و تابعت عملي … كثرة الدماء علمتني الصبر و ضبط النفس…
لا أعلم لماذا كان قلقي يزداد على أهلي كثيرا مع مرور الوقت … صديقتي نور تمسك بيدي بين الحين والحين، تطمئنني أن أهلي بخير ولكن لم يستطيعوا الوصول الى هاتف ليتحدثوا معي…
شارفت الساعة السابعة مساءً وأصوات القصف بدأت تهدأ شيئاً فشيئا …. القناص الذي تمركز في مدخل مدينة دوما مازال يطلق العنان لرصاصه متصيداً أي شخص يقع في مرمى نيرانه.
فجأة دخل طاقم الإسعاف الميداني إلى المشفى ليخبرنا أن النظام ارتكب مجزرة جديدة، استهدفت منطقة جامع التوحيد التي تقع في مقدمة دوما، وقتل مالا يقل عن 30 شخصاً من عائلتين حسب معلومات أولية. وأن مجموعة الجيش الحر التي كانت هناك انسحبت، ولم تستطع أن تسحب معها المدنيين الذين بقوا في المنطقة.
نحتاج إلى حل سريع لإخلاء الشهداء و الجرحى و المدنيين، نظرنا بعيون بعضنا، لا زلت أذكر تلك النظرات أنا ونور وأبو شادي و عبادة وكفاح وأبو فراس وأحمد وخالد. هناك أشخاص خارج المشفى من الجيش الحر قرروا القيام بعملية تعتبر استشهادية لمساعدة الأهالي العالقين هناك … أبو فراس وهو أكبرنا سناً قال : “القناص مازال يستهدف تلك المنطقة، هناك خطورة كبيرة من يريد الذهاب فليعلم بأننا سوف نذهب للموت. لن تخرج النساء معنا ابقوا هنا بانتظارنا”.
كانت لحظات وداع رهيبة خرج الشباب، وعند الباب تحدثت إلى الشخص الذي كان بمثابة أخي، أبو شادي، قلت له: “أبو شادي .. أهلي هناك في تلك المنطقة، أرجوك حاول أن تصل إليهم وعندما تعلم عنهم أي خبر بلغني عن طريق اللاسلكي “. أجابني “لن نعود حتى نخرجهم جميعا”
ودعتهم وأنا مبتسمة وعيوني تغرق بصمت في حزنها لأنني أدرك تماما احتمالعدم عودتهم.
بعد نصف ساعة عاد أبو فراس المسعف وقد أصيب … ولم يرجع البقية معه … في المشفى ازداد قلق طاقم الاسعاف، ازداد عجزنا بالوقت نفسه، نحن على مشارف موت محتم، حالة من الرعب و الهلع تسود المشفى، جثث الشهداء هنا تحتاج الدفن…
مضت ساعة على خروجهم، فجاة دخل من الباب أبو شادي وهو يحمل جثة لشخص أعرفه، ركضت إليه وأنا أقول (( “طمني على أهلي الله يجبرك”. قال: “لا تخافي أهلك بخير، أجلاهم الجيش الحر على حرستا، ولكن رجال بيت طعمة استشهدوا جميعاً، وحدي الله، النسوان أخدوهن على بيت قريب من هون هلأ منوصّلك لعندهن”؟