في حيش كان ينتظرنا والدي المريض ومجزرة!
من حي السكري في حلب. صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود
"خرجَ صوت الانفجار! أحسستُ حينها أنّ المنزل قد طار ثمَ وقعَ على الأرض!"
كنت أعمل في المنزل حين حضر زوجي على غير عادته باكراً، وقبل أن أصاب بالهلع أخبرني أن ليس هناك ما يدعو للقلق ولكن والدي المريض بداء السكري أصابه التعب، بحسب ما أبلغه شقيقي هاتفياً.
تركنا بيتنا في بلدة كفرسجنة وتوجهنا إلى منزل أهلي في بلدة حيش المجاورة وكنا قد اصطحبنا ابننا البالغ من العمر 4 سنوات. هناك وجدتُ أبي طريحَ الفراش، وإلى جانبه أمي وأختي، وأخي الذي يقيم بالجوار. بكيتُ لرؤيته وهو في تلك الحالة. كنت مُتعلقة بوالدي جداً. لكنهُ بعد ذلك تحسَّنَ نسبياً بعدما حصلَ على عقاقير الأنسولين…
بقيتُ تلك الليلة أنا وابني بضيافة أهلي في حين عادَ زوجي لوحده إلى كفرسجنة. أمضيتُ ليلتي في حيش ولم أكن أعرف ما ينتظرني…
تعب أبي ومرضه لم يمنعه من القلق والخوف علينا، وبشكل خاص على أحفاده الصغار، وكلّما سمعَ صوت طائرة يشتد خوفه وصراخه واصراره على أن نلتزم الحذَر وألّا نخرج من المنزل.
خوف والدي كان مُبرَّراً، فما رأيناه في السنوات الست الماضية من مجازر وقصف ودمار يجعلك لا تستبعد أي احتمال للموت، وآخرها كانت مجزرة الكيماوي في خان شيخون التي كانت قد حصلت قبلَ يومين.
بقينا على ترقب هدير صوت الطائرة إلى أن حلَّ الليل، فخلدنا إلى النوم وعاد أخي إلى منزله. كي نفسح لوالدي المجال للنوم والإستراحة بعد عناءِ يومٍ طويل… وغرقنا جميعاً بالنوم…
عندَ حوالي الرابعة فجراً، دوّى صوتِ انفجار قوي. ضممتُ إبني إلى صدري وصرخت: يا الله… على وقعِ الكلمة، خرجَ صوت الانفجار! أحسستُ حينها أنّ المنزل قد طار ثمَ وقعَ على الأرض!
تكسَّر زجاجَ باب الغرفة وسقطت خزانة الملابس وأصابت قدمي اليمنى… رغم وجع قدمي، حملتُ ابني الذي أجهش بالبكاء، ثمَّ خرجتُ مع أختي إلى الحمَّام حيث يلجأ معظم الناس هنا حين تقع الغارات، حيث تكثر فيه العواميد قياساً بمساحته الضئيلة نسبياً… لم نكد نصل إلى الحمّام حتى سقط صاروخ آخر!
شاهدتُ أُمي وهي تجرُّ أبي والدماء تسيل من أقدامهم، فهما يمشيان فوق الزجاج المكسور دون أن يشعرا ربما… مع العلم أنَّ الإصابة بالجروح شيء خطير بالنسبة لمصاب السكّري!
صارت أمي تبكي وهي تصرخ باسم أخي الذي يقع منزله بجوار منزل أهلي… صارت تقول: “يا الله… يا مغيث… من المؤكَّد أنهم ماتوا جميعاً، من المؤكَّد أنَّ الصاروخ قد وقع فوقهم!”
انهار أبي كلياً وجلسَ على الأرض يبكي والدم يسيل من قدميه… لكن الحمدُ لله، حينها دخلَ أخي ليطمئن علينا فاطمأنينا عليه أيضاً…
الغارتان استهدفتا المركز الصحي في القرية، وهو قريب جداً من منزل أهلي. بعدها ذهبنا جميعاً إلى منزل أخي وجلسنا في غرفة واحدة نضمّد الإصابات الطفيفة…
لا يمكنني أن أنسى في يوم من الأيام كل هذه التفاصيل، وبشكل خاص أصوات الناس في الحي وصوت سيارات الإسعاف… صوت بكاء وعويل… أطفال، نساء، رجال… صرخات ما بعد وقوع المصيبة!
تلكَ الصرخات هي أكثر ما لا أنساه، وهي ما تعوّدت عليه أذناي لكني رافضة لهذا الواقع…
نعم، تلكَ كانت مجزرة حيش في 7 نيسان/أبريل 2017، وقد راحَ ضحيتها تسعة مدنين والعديد من الجرحى، من بينهم الأطفال والنساء… وكان من بين الشهداء عائلة من مدينة حلفايا نزحوا إلى حيش هرباً من القصف والموت الذي لاقاهم هنا!
يوم لن أنساه طوالَ عمري، كنتُ في زيارة إلى منزل أهلي، ولكنها تحولت لرحلة حتى حدود الموت ! لملمت الذكريات المؤلمة، واوصلني مع أخي إلى منزلي في كفرسجنة…
ما أدمى قلبي أكثر فأكثر، هو ابني ذو السنوات الأربع كيفَ صار يسرد لوالده وقائع الغارتين بالتفصيل… حضنه زوجي وأنا كذلك، وبكينا جميعاً… بكينا لأنَّ لا ذنبَ لنا بكل ما يحصل، ولا نعلم لِمَ كل هذا الحقد!
أمل الغد (29 عاماً) من بلدة حيش في ريف إدلب الجنوبي. متزوجة ولديها طفل, حاصلة على شهادة في الهندسة المدنية من جامعة حلب. كانت تقيم مع زوجها في حلب ولكن بعد انشقاقه عن النظام عادت لتسكن في بلدته كفرسجنة.