في حضرة الشهيد

سلاف زيدان

لن أنسى تلك العبارة أبداً: “حصلت مجزرة في برزة.” فقد جرى ذلك اليوم إطلاق النار على مسيرة تشييع في تلك الضاحية الدمشقية. حطّ الغضب بكل ثقله فوق صدري، فلم نكن قد اعتدنا حينها على الموت كما اعتدناه اليوم، بالرغم من أن نحو ثمانية شهور كانت قد مرت على بداية الثورة.

موكب تشييع. فيسبوك – صفحة برزة البلد

هل سنتمكن من تشييع الشهداء؟ لا بد أنّ هذا السؤال كان يشغل بال كثيرين غيري.
ظهر الخبرعلى صفحة التنسيقية على فيسبوك أخيراً: “سيتم تشييع الشهداء غداً من جامع السلام بعد صلاة الظهر.”
كانت المرة الأولى التي سأذهب بها إلى برزة، كما أنها الأولى التي سأشهد فيها تشييع شهيد. لا، لم يكن شهيداً واحداً بل خمسة.
لم يكن من الصعب أن ترتسم صورة الجامع وطرق الوصول إليه في ذاكرتي بعد أن تم نشرها على صفحة التنسيقية، فما إن مرَّ “السرفيس” بجانبه حتى برزت قناطره واضحةً تنادي كل الذين يبحثون عنه.
نعم إنه هو، بداخل هذا الجامع يوجد خمسة شهداء، وبجانبه لا بد أن هناك خمس أمهات وكثيرات غيرهنّ يستحضرنَ في هذه الدقائق كل ما قضينه بصحبة أحبائهن الذين قضوا.
لم أكن أرغب بالتوقف لحظة واحدة، أردت قطع الشارع وتلك الساحة بأقصى سرعة للإنضمام إلى الحشود المنتظرة هناك، لكنني  في الوقت نفسه كنت أرتعش خوفاً. لم يكن الإعتقال ما كان يخيفي، كما لم أفكر أنني ربما سأموت في ذلك اليوم، لكن هذه المرة كانت الأولى التي كنت سأرى فيها شهيداً وهذا كان يكفي لأكون أضعف بكثير مما كنت أتوقع.
عيوني تترصد باب الجامع، وبكل حواسي أنتظر، أحاول أن أتخيل ما الذي سيحصل، لكنني أفشل. أنظر إلى الوجوه حولي لكنها تعود لتأخذني إلى باب الجامع حيث الأنظار معلّقة. الصمت يلف المكان، لكنك تستطيع أن تسمع الكثير في تلك العيون.
أسمع صوت صديقي بجانبي يخبرني أنه عليّ الإنضمام إلى النساء، هذا ما يريده أهل الحي خوفاً من أي هجوم (أو رغبة بعدم مشاركتهن في هذا لا أدري حقاً.)
أذهب إليهن لأرى العيون كلها محدقة بي، ومن حيث لا أدري يأتيني السؤال: “أنت برزاوية؟”
_”لا، أنا من السويداء.”
تختلف النظرات وتحتد، فقد كانت هذه الإجابة كفيلة بطرح مئات الأسئلة في عينيّ كل منهن. أقف عاجزة لا أستطيع الرد على أي من هذه الأسئلة وكل الإتهامات. أشعر بالوحدة والغربة والكثير من الخجل، والكثير الكثير من الحقد على نفسي. أتمنى لو أن لدي أي انتماء غير الذي أنتمي إليه.  لم أشعر بذلك الألم من قبل، ألمٌ إلى حد الإختناق. أُلًملِمُ ذاتي على عجل وأحاول إخبارهن بأنني سأبقى بالرغم من رفضهن. وقبل أن أكمل، تقاطعني سيدة  في العقد الخامس من عمرها لتحتضنني وتجلسني بجانبها محذرةً أياً كان من الإقتراب مني، فأنا، كما قالت، “ضيفتنا، ورح تبارك التشييع.” لم أستطع أن أقول لها شيئاً، وأدركت أنها لم تنتظر مني أن أشكرها.
تأتي سيدة أخرى لتجلس جانباً وتهمس في أذني: “هي إم الشهيد اللي جوا، مبارح استشهد وهوعم يشيّع أخوه التاني.” لا أدري إن كانت قد أخبرتني بشيء آخر، فصوتها تلاشى مع كل من من حولها. الشيء الوحيد الذي لم يغب عني حينها هو وجه السيدة أم الشهيدين. نظرت في عينيها مطولاً لأرى شيئاً من الضعف أو قليلاً من الدموع، لكنّي لم أرَ سوى سيدة بقوة جبل.
هل كنت سأكون بربع هذه القوة لو كان لي ولد شهيد؟ لاأظن ذلك أبداً.

“تكبير.” تعيدني تلك الصيحة من جديد إلى حيث أنا؛ أنتفض مسرعة. هاهم قد بدأوا… أبحث عن صديقي من جديد وأقف إلى جانبه، فلم يكن ذلك أول تشييع يشهده، إذ لا بد أنه سيمدني بالقليل من القوة.
بدؤوا بإخراجهم واحداً تلوَ الآخر من الجامع، جميعهم الآن على الأكف ولا شيء يعلو فوقهم سوى السماء…
لم أقتنع يوماً بالقدرة على الزغردة للشهداء، فالإستشهاد موت ولا شيء يحيط به سوى الحزن. لكن مع أول صوت للزغردة،  وجدت نفسي أشارك بملء صوتي ورغبتي. نعم إنه عريس، كل شيء يدل على ذلك…

بدأنا نسير، لا أستطيع أن أمنع نفسي من النظر الى الوراء. كم أنا محظوظة للوجود مع كل هذه الحشود. أتذكر وجوه هؤلاء الشبان البعيدة التي غطاها التراب، فأصرخ بكل صوتي. أتذكر تلك الأم التي كنت بجانبها منذ قليل دون أن تعلم كم من الرغبة تعتريني لتأخذني إبنة لها فيعلو صوتي من جديد. أتذكر وجه قاتلهم، فأصرخ وأصرخ وأصرخ، لا أتوقف إلا حين تمسكني من ذراعي إحدى السيدات اللواتي كنت قد رأيتهن في أول اللقاء لتقول لي: “حبيبتي ثورجية وما في منك، بس الله يرضى عليكي حطي هالشال عراسك لأنو العواينية كتار وبخاف ياخدولك شي صورة.”
لم يكن ثمة طريقة للترحيب بي أفضل من  تلك. وضعتُ الشال دون أي كلمة، تماماً كما فرض ذلك اليوم لنفسه مكاناً في حياتي للأبد.