غبار الموت وهدم المنازل!
نساء يتفقدن مكان استهداف الطيران الحربي لاحد منازل اقربائهم - تصوير معهد صحافة الحرب والسلام
بعد عام ونصف على بدء الثورة، أردتُ الذهاب إلى حماه المدينة لزيارة طبيب العيون. خرجتُ من البيت باكراً وتركت أطفالي في المنزل مع زوجة عمي.
على الرغم من أن الطريق قصير بين قريتي وحماه، إلا أننا احتجنا ساعة كاملة للوصول، بسبب وجود حواجز التفتيش للجيش والشبيحة كل مائتي متر…
لدى انتهاء المعاينة عند الطبيب، كان الوقت قد أصبح الظهيرة، ذهبت مسرعة إلى الكراج الذي كان ممتلئاً بالجنود. صعدتُ إلى الباص وعند خروجنا من المدينة أوقفنا حاجز، وقال لنا: “عودوا… الطريق مقطوع”.
شعرت بتوتر من أجل أبنائي الصغار. عدنا إلى الكراج واتصلت بزوجة عمي وأخبرتها أنَّ الطريق قد قطع!
بقيتُ عالقة في حماه، ماذا أفعل؟
تذكرت أن لي صديقة تقطن في منطقة تُسمّى مشاع الأربعين، على أطراف حماه الشمالية وفيها الحمويون والبدو، يسكنون في منازل غير مرخّصة، (المشاع تسمية تطلق على المناطق التابعة ملكيتها للبلدية أو الدولة، كما يمكن أن تكون مناطق غير مفروزة عقاريا)… فركبت سيارة الأجرة باتجاه منزلها. وفي طريقي إليها رأيت بلدوزرات وشاحنات وجنود كثر…
فَرِحتْ صديقتي لمجيئي، فلم نرَ بعضنا منذ أربع سنوات… واضطررتُ أن أنام عندها، حتى الصباح علَّ الطريق تُفتَح. عند السابعة صباحاً ارتفع صوت صرخات النساء في المشاع… كان الجو بارداً وخرجنا مُسرعين لنرى ما يجري وننصدم بالواقع!
لقد جاء أمر بإخلاء المشاع وتدميره بالكامل، بحجة أنّ المنازل فيه غير مُرخّصة… سيهدموه، ولو فوق رؤوس أصحابه إن عارضوا الأمر!
صعقني ما يجري، إلى أين سيذهب أولئك الناس؟ تغيرت ملامح وجه صديقتي والنساء من حولها يصرخن… عدنا ودخلنا المنزل ولم يكن قد وصل الشبيحة والبلدوزرات لتنفيذ الأمر بعد.
عند التاسعة صباحاً كنت أنوي الخروج من منزل صديقتي، علَّ الطريق قد فُتحت. دعوت صديقتي كي تأتي وتسكن معي… طبعاً رفضتْ، لكن كانت دعوتي كي تشعر أنها ليست وحدها…
وما إن اقتربنا من باب المنزل حتى بدأ صوت إطلاق الرصاص، فخرجنا وإذ بالشبيحة يطوِّقون البيوت ويجبرون سكانها على الخروج منها، بينما يقوم آخرون بسلب أثاث المنازل أمام عيون سكانها.
عندما نظرنا إلى الجهة الشمالية والغربية للمشاع، كان الغبار كثيفاً للغاية، لدرجة أنني سألت نفسي:
“هل هي عاصفة؟”
بدأ الناس بالركض وإخلاء المنازل قبل وصول الشبيحة إليها… وبعد نصف ساعة وصل الجيش إلى الحي الذي تقطن فيه صديقتي!
وقفنا أمام باب المنزل نشاهد بعينٍ مجردة كل ما يحدث. طرقوا باب منزل لا يقطن فيه سوى إمرأة تبلغ من العمر 50 عاماً… فتحت لهم الباب، فصرخوا: “اخرجي من المنزل”… بكت المرأة وسألتهم: “إلى أين سأذهب؟ ليس لدي أحد ألجأ إليه!” فردَّ أحد الجنود، قائلاً: “اذهبي إلى جهنم!”.
عندما سمعتُهم يقولون ذلك، اشتعلت نارٌ في داخلي، كأنها بركان!
بقيتُ عالقة ذلك اليوم أيضاً عند صديقتي… وبدأ هدم المشاع في الصباح… وعاودوا الهدم في المساء.
وصعدنا إلى الأسطح لنرى ماذا يفعلون…
لم يشمل قرار الهدم سوق الخميس والبيوت التي تحيط به… فبقيت صديقتي في منزلها، والألم يعتصر قلوبنا على ما نراه من ظلم…
في صباح اليوم التالي، خرجتُ متجهةً إلى منزلي… فرأيتُ كيف أصبح المشاع مدمَّراً، وكيف سُحقت أماني البشر وكيف ماتت أحلامهم… كيف خرج الناس من منازلهم بعد الهدم يتساءلون عن الذنب الذي ارتكبوه ليحل بهم كل هذا!
في طريقي إلى الكراج سمعت رجلاً يشجو حزناً: “يا ليت حكم الظلم يزول والفرح يعمر ويغمر البيوت… أين أولادي أين أحفادي؟” ثمَّ سكت بدمعة مقهورة، لم يسعني حينها سوى البكاء…
مشاع شاعَ فيه الموت… بعد حياة صاخبة، سكن فيه الصمت وساد صوت الآليات والمجنزرات… المشاع الذي يستر الناس خلف جدرانهم، الى أين سيذهبون؟ لقد هدموا المشاع ليبنوا شققاً للشبيحة…
عندما وصلتُ إلى منزلي، احتضنتُ أطفالي وبدأت بالبكاء… قالت لي زوجة عمي: “ما بك، لِمَ تبكين؟”
فقصصتُ لها بألم ما حدث…
عند المساء اتصلت بي صديقتي، وهي تبكي وتروي لي ما حصلَ بعد خروجي!
عائلات بأكملها صارت مُشرّدة… وأناس لا تستطيع النطق بأي كلمة من جبروت الظلم…
ماذا فعلوا كي يُعاقَبوا هكذا؟
غبار الموت شملَ أهلَ المشاع بأكملهم…الذين كانوا قدوةً للثورة وخروج التظاهرات، وهذا هو السبب الرئيسي في هدم منازلهم!
نرجس الحموية (31 عاماً) من ريف حماه. ربة منزل، أرملة ولديها أربعة أولاد. شاركت بدورات نسيج وتمريض في أحد المراكز النسائية في ريف إدلب حيث تسكن حالياً.