عودوا من حيث أتيتم الطريق مقطوعة
في بداية تحرير الغوطة الشرقية من قبضة النظام، وبالرغم من حالة الفرح التي عمّت الجميع، كنا نعيش حالة تخبّط وعدم استقرار يتخللها القلق. كان النظام يواجهنا بطرق مختلفة، من جهة يقصفنا يومياً بالطيران الحربي وقذائف الهاون، ومن جهة أخرى يمنع دخول الطعام والدواء، عبر إقامة حواجز منها الثابتة ومنها المتنقلة، والتي تفصلنا عن الشام. وكل من يخالف شروط الدخول إلى الغوطة كان عرضة للاعتقال مع ما يعنيه هذا من مصير مجهول غالباً. كانوا يعتقلون من يشاؤون، يسلبون الناس الأبرياء طعامهم ليكومونه في تلال بالقرب من الحواجز ليبقى حسرة بقلبهم، أما من يحضر الدواء فكان كمن ارتكب ذنباً لا يغتفر، يؤخذ صاحبه لأحد الأفرع الأمنية ولا يخرج منها ابدا.
ومع ذلك كنت أنا وأختي الكبيرة إسراء نتحمل مشقة الذهاب يوميا إلى جامعة دمشق. نخرج من الصباح الباكر لنعود مساء متعبتين منهكتين، بسبب الانتظار على الحواجز الكثيرة والضغط النفسي الذي نتعرض له من العساكر ورؤسائهم. كان طريقنا يستغرق سابقا حوالي الخمسة عشرة دقيقة أصبح الآن يستغرق حوالي الثلاث ساعات.
26 شباط/فبراير 2013، بدأ النهار بقلق أمي اليومي من ذهابنا إلى الجامعة، وخروجنا من دوما ولكننا كنا نحتمل بغية إنهاء السنة الدراسية. يومها وفي طريق العودة كان حاجز امخيم الوافدين وهو الأخير الذي يفصل بين دوما ودمشق، يمنع دخول أي شخص من سكان الغوطة إليها. ولكننا كنا مضطرين للدخول خوفا على أهلي، لأنهم سيقلقون علينا جدا و لأن لا مكان نأوي إليه في الشام، ولا أقرباء نبات عندهم ريثما يفتح طريق العودة لمنزلنا. لذلك ركبنا الباص ونحن خائفين من الامن ندعو لربنا أن يعمي عنا أبصارهم، ويدعوننا تمر بسلام او يعتبروننا من أهالي المخيم ولا يلاحظوا وجودنا أبدا .
طال الطريق وانتظار المجهول أختي تمسك بيدي التي تتصبب عرقاً وترتعش من شدة الخوف والقلق، تجول الأفكار في رأسي، ماذا علينا أن نفعل أو نقول إذا سألنا العسكري: من وين إنتو؟ هل أكذب أو أقول الحقيقة؟ وإذا عرف الحقيقة هل أرجوه أن أدخل إلى أهلي أو أسكت و انسحب بكرامتي ، أين سنبقى إن لم ندخل لمدينتنا، وإلى متى سنبقى بعيدين عن اهلي؟ ضاق صدري وحار بالاحتمالات، كثرت الأسئلة التي لا جواب لها، حتى وصلنا إلى الحاجز، تنفسنا الصعداء وترقبنا ماذا سيحدث عندما سيأتي دورنا .
فتح العسكري باب الباص وألقى نظرة على جميع الركاب واحداً تلو الآخر، حتى وصل إلينا سكت قليلا ثم سأل: من وين يا آنسات؟ أعطوني هوياتكن.
تجمدنا في مكاننا ونظرات الارتباك بادية في عيوننا. سارعت أختي بالجواب: نحنا من دوما.
رد علينا: انزلي انتي وياها يلا بسرعة، ما في فوتة اليوم لجوا ممنوع ارجعوا مطرح ما اجيتو.
نزلنا ولم نعرف ماذا نفعل. نزل معنا عدد كبير من الركاب، أكثرهم عاد أدراجه إلى الشام، بعضهم أخذ يترجى العسكري أن يدخله. أما نحن فاحترنا في ما نفعل.
كان الحاجز يحيط به خندق على طول الأوتوستراد، لكي لا يمر الناس من أي مكان إلا من الحواجز الأمنية. نزل معنا شاب من الباص، اقترح علينا التسلل عبر الخندق إلى الجهة المقابلة، والسير بين الأشجار وبعدها إلى الحارات، ثم إلى دوما. في البداية لم نقبل واعتقدنا أنها فكرة مجنونة، ولكن بعدها وافقنا على مضض بسبب عدم تواجد حل آخر. نزلت أنا وأختي والشاب، كان اسمه محمد، ورافقتنا فتاة أخرى وأمها ورجل آخر، تساعدنا حتى وصلنا للجهة المقابلة، تسسللنا بين الأشجار، بلغنا إحدى الحارات، مشينا فيها وإذ بصوت يصدر من إحدى الشرفات: دوامنة، دوامنة، دوامنة. كانوا يميزوننا من شكل ثيابنا ووجوهنا، وإذ بقناص الحاجز يطلق علينا الرصاص مثل زخ المطر، والعساكر ركضوا خلفنا بأقصى سرعة. بدأنا بالركض وهم ينادون خلفنا: وقفوا انت وياها ارجعوا لهون. ولكننا استمرينا بالركض، كنا على يقين أننا سنعتقل على هذا الفعل.
بدأت أجهش بالبكاء والصراخ، والرصاص فوق رؤوسنا. إسراء كانت تشدني من يدي، وتحثني على الاستمرار بالركض. سمعنا صوت بوق سيارة من خلفنا، ولكننا استمرينا بالركض. اقتربت السيارة منّا وقال لنا السائق أنه من دوما. دعانا للصعود في السيارة لكي لا يمسكوننا، لم نعرف هل نصدقه أم لا. هل نصعد أم نستمر بالركض؟ ظننا أنه مع الأمن ويريد خداعنا وأخذنا إليهم، ولكن وجهه كان صادقاً ومألوفاً. تعرف عليه الشاب الذي معنا، وكان حلنا الوحيد، توقف قليلا فصعدنا معه بسرعة حتى وصلنا لحواجز الجيش الحر و أصبحنا بأمان.
لم أصدق نفسي أني بمأمن وبعيدة عن براثن “الشبيحة”. بدأت هذه الأفكار تتدفق في رأسي أريد العيش أكثر لأحظى بلحظات أكثر مع من أحب. أريد عيش الحياة بكل جوانبها بحلوها ومرها. أريد تجريب كل شيء لم أجربه، أريد السهر حتى الصباح، أريد أن أجول العالم بأكمله، أريد وأريد… عدنا للمنزل ولم نتحدث عن الذي حصل أبداً نسيناه تماما. بقي الطريق مغلقا لمدة خمسة عشر يوماً، ثم عاد ليفتح ولكن بشروط أصعب، عدنا للدوام ولم نجد العساكر الذين كانوا من قبل، تم تغييرهم كالعادة.
والحمد لله وتستمر الحياة.