عهد سلمية الثورة تحت النار
صدحت هتافات المتظاهرين منذ اليوم الأول للثورة السورية منادية بالسلمية حتى إسقاط النظام، رافعة شعارات اللاعنف مهما حاول رأس الدولة ومن حوله جرها إلى التسلح. فجزء كبير من الشعب لديه الوعي الكافي ليدرك أن حمل السلاح في هذه المرحلة سيجر البلد بكامله إلى دائرة العنف التي بدورها ستدخل جميع الأطراف في حرب داخلية مفتوحة يقتل الأخ فيها أخاه، وستمنح النظام القمعي ورقة إضافية تفسح أمامه المجال لسفك المزيد من الدماء. لهذا ناضل الثوار من أجل الحفاظ على سلمية الثورة رغم كل ما يقوم به النظام من إنتهاكات بحق المدنيين ومحاولات بعض أطراف الثورة الدعوة لحمل السلاح.
“سلمية الثورة تعني العزم على تغيير الأنظمة الشاذة دون إنتهاك بنى الدولة. ودون إنتهاك الحق الأول في شرعة حقوق الإنسان: الحق في الحياة” يرى الباحث حسان عباس، ويضيف أن “المشكلة تخلق عندما يتجاوز العنف الممارس على الناس حدوده المشروعة في القانون، ويتحول إلى عنف همجي متوحش، يستنفر عنفاً مضاداً يستوجبه الحق الأول في شرعة حقوق الإنسان: الحق في الحياة. ويتحول العنف الكامن إلى عنف فاعل، عنف يهدف إلى ردع العنف، في هذا الحد الدقيق بين رفض العنف حمايةً للحياة، وممارسة العنف حمايةً للحياة تقع كل إشكالية عسكرة الثورة”.
ومع تطور الأحداث اليوم وإستمرار القتل والإعتقالات من قبل الأمن السوري وممن يدعون بالشبيحة، إنقسم المعارضون والثوار إلى قسمين، منهم من ينادي بالتدخل الأجنبي وإن كان الحل هو التدخل العسكري، وآخرون مازالوا يطالبون بالسلمية رافضين تحول البلاد إلى ساحة حرب. نتيجة لذلك لاحت في الأفق دعوات متقطعة للإضراب، قامت بها مجموعات تجهد لتوحيد الصفوف في محاولات لإنقاذ الثورة من هذا الإنقسام وحثها على إعلان العصيان المدني الذي يعتبر برأي هؤلاء الناشطين الطريق الأمثل لهدم أركان النظام والذي يسمح بإنتقال الثورة إلى مرحلة جديدة وإن كانت تحتاج إلى جهد إضافي لكنها بهذا لا تخرج عن مبادئها متشبثة باللاعنف السياسي والميداني إضافة إلى إيمانها بمقدرة الشعب على تنظيم أموره بطريقة حضارية مدنية.
كثيرون يرون أن الثورة السورية ثورة يتيمة، لا يساندها أحد. الشاعرة رشا عمر تشير إلى أنه “لا أحد مع السوريين في ثورتهم، ثمة تواطؤ رسمي عربي وإقليمي ودولي للقضاء على هذه الثورة، ولا أحد يبدو أنه ينوي التدخل لحماية الشعب السوري الذي يجابه وحيداً بدمه وبعريه أحد أكثر الأنظمة دموية وإرهاباً”، وتضيف “هذا ما يجعل الخيارات التي يملكها الشعب الثائر تنحصر في منحيين :عسكرة الثورة، فالتسليح يعني الحرب الأهلية أمام قدرة النظام على تسليح مؤيديه بأحدث الأسلحة وأمام منحه الغطاء لمزيد من الإجرام، فهو هكذا يواجه مسلحين لا مدنيين سلميين! الخيار الثاني المتبقي وهو الأضمن للمجتمع السوري لاحقاً، هو إختيار الطرق السلمية للمقاومة الشعبية، عبر التظاهر السلمي وهو ما يحدث في كل سوريا وعبر تعزيز مفهوم الإضراب والعصيان المدني وهذا يحتاج إلى خطاب مدني عقلاني من جهة قادر على أن يصل إلى شريحة التجار، أو خطاب يتولاه بعض رجال الدين الموثوق بدعهم للثورة والموثوق بتأثيرهم على شرائح عديدة من الدمشقيين”.
بناء على دعوات الإضراب الكثيرة، أصدر المجلس الوطني تصريحاً يعلن فيه بدء إضراب الكرامة في ال 16 من كانون الأول/ديسيمبر، والذي ظهرت ملامحه في العديد من المدن والأرياف التي مازالت حتى تاريخ هذا اليوم مستمرة في الإضراب ملتزمة بمراحله كافة رغم التشديدات الأمنية. لكن العاصمة دمشق وأختها حلب مازالتا تترنحان في سكرة ما يحدث، تتحركان ببطء شديد، وإن كانت دمشق أكثر إستجابة من الشهباء، تلك التي لاحت ملامح الثورة فيها بشكل طفيف في الشهرين الماضيين مقارنة بالمدن الثائرة الأخرى.
“العصيان المدني سيكون ضربة موجعة للنظام لأنه سيشكل حالة من الشلل التام وعاملاً للإنهيار والانشقاق بشكل عامودي في النظام” هذا ما أكدته الكاتبة والناشطة ريما فليحان، وأضافت” النضال السلمي موضوع لم يستنفذ في سوريا بعد والإضراب أوجع النظام وأصابه بحالة من الهيستريا لأنه يكذب إعلامه ويثبت إتساع مساحة الثورة ويصيبه بالعجز الإقتصادي والإحباط وهذا عامل هام في إسقاط النظام”.
أما اليوم ومع وجود المراقبين الذين طال إنتظارهم، وتلعثمات النظام في محاولاته من أجل تركيب مجسمات للعصابات المسلحة كي تكون الشاهد أمام الجامعة العربية والأطراف الدولية على أن ما يقوم به رجال النظام ليس إلا دفاعاً عن الشعب أولاً وعن النفس ثانياً، تلوح أمامنا الورقة الأخيرة التي إن نفذت في كافة المدن السورية وتحديداً في دمشق، ستكون السهم الذي سيخترق قلب النظام مباشرة في الصميم من دون إدخال البلد في معركة ضارية تحول ما تبقى من الأخضر إلى رماد يستحيل ترميمه.
يقول المحامي أنور البني أن العصيان المدني يتطلب شروطاً مهمة: تتجلى أولاً بوجود معارضة منظمة تنظيماً جيداً منتشرة بكل القطاعات الإنتاجية والجغرافية وقادرة على إدارة مثل هذا النشاط وتنظيمه بما لا يهدد حياة والمسائل المعيشية الأساسية، وثانياً وجود تكتل مالي كبير لدعم العصيان والتعويض على الأشخاص المتضررين. ويتطلب كذلك دعم دولي محيط وسلطة يمكن للحظة أن تفكر أنه ستتنازل عن السلطة إذا اكتشفت أنها فقدت شرعيتها الشعبية” ويضيف البني موضحاً “كل هذه الشروط غير متوفرة بالمشهد السوري، فلا المعارضة منظمة بشكل جيد وموحدة أو على الأقل جزء منها لا يملك القدرة على إدارة مثل هذا النشاط والدعوة لذلك”.
ولا يعتقد البني أن هذه الخطوة ستلقى النجاح الكامل منذ المحاولة الأولى على الأقل، لكنه يرى أن القيام بها أمر ضروري “لتشجيع الناس الخائفين من المشاركة الفعلية بالتظاهر بدفعهم للقيام بعمل لا يعرضهم للقتل.هذا من جهة ومن جهة ثانية هي إشارة إلى إستنفاذ كل الحلول السلمية لإسقاط النظام. وبالتالي هي إشارة سيئة بأن فشل هذه المبادرة سيؤدي إلى ظهور طلبات بالتحول إلى التسلح وإسقاط النظام بالحل العسكري مما يذهب بالمجتمع إلى ما يريده النظام, ويهدد مستقبل المجتمع السوري”.
ليبقى السؤال هنا غارقاً مابين دماء أهدرها النظام غطت غالبية سورية، وألحان ملأت سماء البلاد بكاملها تنشد للوطن والسلم والحرية في محاولة من الشعب بأن يبقي على نقاء ثورتهم قدر المستطاع. أي من الطريقين يجب على الثوار أن يسلكوه كي يحموا أرضهم وعائلاتهم وأصدقائهم، حمل السلاح أم الطريق السلمي وإن كان كلا الطريقين يتطلبان من الثائر أن يضع قلبه على كفه ويسير قدماً نحو حريته.