عن أم محمد وموسيقى القذائف
حلب : الكلاسة سيدة عجوز تأخذ قسط من الراحة قبيل متابعة طريقه الطويل للوصول لمنزلها تصوير: صلاح الأشقر
أم محمد تمثل الوعي والصمود والصبر برأي كل من عرفها. هي نموذج منتشر بكثرة في ربوع الثورة. قررت في أول سرد لي أن أكتب عنها كي لا ننساها وأمثالها من نساء إدلب. تلك النسوة اللواتي شاركن بالثورة، وعملن كل ما بوسعهن من اجل انتصارها. لم اكن اعرفها قبل ذلك يوم الجمعة الواقع في 7 آب/أغسطس 2011، “جمعة الله معنا…” كما أسموها حينذاك. في تلك الأيام كنا نخرج في مظاهرات حاشدة في مدينة ادلب نهتف للحرية ولكل شيء جميل نبغيه. ومساء كنا نشيع شهداء اليوم ونزور أهاليهم للتعزية حتى مع عدم معرفتنا بهم …
دخلت بيتها كان أنيقاً ومرتبا وكانت تجلس بين نساء قريبات وتفعل ما تفعله أم الشهيد .”كان ينتظر الشهادة لقد تمناها منذ أول الثورة ونالها، قال لي قبل يومين: رأيت صديقي الشهيد في منامي، وكان يدعوني للذهاب إليه وأنا مستعد يا أمي …ادعِ لي كي ألحق به وبرفاق دربي”. كان شهيدها بل شهيدنا وشهيد الثورة، طالبا جامعيا لا تفصله سوى مادتين عن التخرّج من كلية الحقوق. كان مدلّلها وحبيبها ويشهد له الجميع بحسن التربية والأخلاق … تذكرتها جيدا لقد كنت أعرفها دون أن أعرف اسمها، كنا نلتقي كل جمعة هي تركب مع زوجها في سيارة شحن صغيرة وأنا أمشي مع زميلاتي … كانت سيارتهم محمّلة بعبوات ماء يوزعانها على الشباب في أيام حارة، وكنت أحمل معي زجاجات ماء مثلجة فأضعها معهما ويقومان بالمهمة بدلا عني وبدأت صحبتنا … أهداف واحدة وآلام مشتركة … في أيام الجمعة التي تلت كانت منهارة وتعبة لم تستطع الخروج معنا.
كانت المظاهرة التي تخرج من أمام جامع سعد متجهة إلى ساحة الساعة للتجمع تمر بقصد أمام منزلها الذي يقع قرب الصالة الرياضية، يهتف أصدقاء ولدها “دم الشهيد مو نسيانينو” و”أم الشهيد نحنا ولادك” و “أم الشهيد لا تهتمي بفدي الشهيد بدمي”. كانت تنتظرنا على الشرفة متكئة على أقربائها يساعدونها في الوقوف لترفع يديها وتحيي الشباب وتهتف معهم … وتبكي… وترمي لهم بحبات الكراميل التي جهزتها في اليوم السابق لهذا الغرض، بينما زوجها يقف أمام المنزل ومعه الماء البارد يسقي المتظاهرين، ويرش الرذاذ بخرطوم مدده من منزلهم ليخفف عنهم حرارة الجو …
كانت معلمة مدرسة ، وقررت أن تصبر وتعمل، صارت أشد إصرارًا على المضي بالثورة حتى النهاية مهما كانت المصاعب، وأصبحت حركاتها وتنقلاتها مراقبة بدقة… وحتى منزلها … قالت لي: “لست اشعر بمراقبيّ فقط بل أراهم في كل مكان، يراقبونني بوقاحة وبشكل علني ليخيفوني بل ان احد شبيحة الحارة قام بضرب ابني الأصغر ضرباً شديداً وهو يتوعد ويهدد”… لم تبالِ أم محمد بكل ذلك واستمرت زياراتها المكوكية لأسر الشهداء والمعتقلين، تسجّل احتياجاتهم اليومية، وتنقل لنا أخبار أحوالهم المادية الصعبة وضيق ذات يدهم، وتعود إليهم محمّلة بما يساعد به الأهالي المتلهفون لمد يد المساعدة للأسر المحتاجة ولمن فقد معيله قتلاً أو أسراً. في تلك الفترة كانت الناس خائفة فما شاهدوه من فظائع النظام في مدينتهم وعلى شاشات التلفاز وما سمعوه عن المعتقلات والأساليب الوحشية الهمجية يجعلهم في خوف على أنفسهم وعلى أولادهم، لكنهم كانوا يساعدون سرًا ويرجون عدم ذكر أسمائهم أو الإشارة إليهم من قريب أو بعيد. فلان انتهى موسم زيتونه ويريد توزيع زكاته في المكان الصحيح. فلانة نذرت نذراً وتريد الآن وفيه للمنكوبين. أخرى نذرت ذبح خروف وتريد توزيعه سراً على عائلات الشهداء. كانوا يثقون بها وبزميلاتها أيضا اقصد نحن فقد اصبح العمل اكثر تنسيقا وتنظيما…واستمرت على ذلك الحال حتى بعد دخول جيش النظام إلى إدلب واحتلالها وخروج الثوار منها.
في شهر رمضان التالي كانت تزورني يومياً بعد الافطار لتشرب معي قهوتها وتبكي وتفضفض . قالت لي في إحدى زياراتها “أبو محمد خرج من المدينة مع الثوار فهو مستهدف ولا نعرف أراضيه، يكلمني أحيانا وفي كل مرة من مكان مختلف، أحوالهم صعبة يا حسرتي عليهم، يأكلون دبس البندورة مع الخبز دون زيت…” أضافت “هل تعرفين الشاب الذي تسلق يوماً عمود الكهرباء دون مساعدة كالعنكبوت ليرفع علم الحرية في ساحة الساعة ؟ يا قلبي عليه لقد استشهد، أبوه ستينيّ، يعمل حفار قبور من بيت المحصي وعنده عشرة أولاد. خرج من المدينة أيضا وبقي الأولاد المساكين دون معيل”. استشهد الأب لاحقاً تحت التعذيب، بعد أن تم اعتقاله وهو يزور عائلته متخفيا. كان يحمل طعاما للثوار من داخل المدينة. هذا ما أخبرتني به في أحد اتصالاتنا . أخبرها الأب يوما أن الشباب يشتهون أكلة غمم (جمع غمّة) وهي رؤوس الخراف المسلوقة والمطبوخة مع البرغل أو الفريكة. وقد يأكلونها مع مرقتها والخبز اليابس المقطع والثوم . أخبرتني أم محمد أنه حمل اليهم ذلك اليوم عشرة منها، مع أن عملية تنظيفها صعبة للغاية. لكنه نظفها بنفسه وطبخها قائلا “وأنا ايضا أريد المشاركة في الثورة”…
أم محمد كانت تحب زيارتي، وتحب شرب القهوة على شرفة منزلي ليس فقط محبة بي واستمتاعاً بصحبتي، بل لسبب اّخر اكثر أهمية، لا أعرف إن كان صدفة أم أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يخفف شيئا من عذاب أم الشهيد. ففي كل يوم تزورني فيه بعد التراويح كنا نسمع أصوات إطلاق نار من رشاشات وأسلحة اخرى، لم نكن نميزها على أطراف المدينة. تضحك أم محمد بشدة وبصوت عالٍ وتقول: “خيييييييي الآن فرفح قلبي… بردت روحي وهدأت ، الآن وفي هذه اللحظة نسيت حزني وانا سعيدة…” ثم تضبف: “إسمع يا حمودة هم لم ينسوك وسيعودون، وسيثأرون لك ولرفاقك.هذة الأصوات تعني انهم قريبون (تقصد الثوار) نعم لم يذهبوا، لم ينسونا، لم يرحلوا بعيداً كما يروّج النظام بشائعاته، انهم يجهزون أنفسهم للعودة ونحن بانتظارهم وسنكون معهم…”
وهكذا استمرت زياراتها التي تحمل كثيراً من الأمل للجميع. ثم نزحت أنا وبقيت هي صامدة هناك. ما زلنا على اتصال وما زال قلبها يفرح لكل رشقة رصاص أو صوت قذيفة مدفع تسمعها وتشعرها أن الثوار موجودون…ما زالت تنتظر عودتهم وعودتنا…….